اليوم الثاني أخِرج الحجَّاج مواليَهُ وغِلمانَه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواهِ السِّكَك ممَّا يلي الكُوفة، وخرج أهلُ الكوفة فأخذوا بأفواه سِكَكهم، وخشوا إن لم يخرجوا مَوْجدةَ الحجَّاج وعبد الملك بن مروان، وجاء شبيب حتى ابتنى مسجدًا في أقصى السَّبَخة مما يلي موقفَ أصحاب القتّ عند الإيوان، وهو قائمٌ حتى الساعة، فلمَّا كان اليوم الثالث أخرجَ الحجَّاج أبا الورْد مولىً له عليه تجْفاف، وأخرج مجفَّفة كثيرة وغلمانًا له، وقالوا: هذا الحجاج، فحَمَل عليه شبيبٌ فقتله، وقال: إن كان هذا الحجَّاج فقد أرَحْتُكم منه.
ثم إن الحجَّاج أخرج له غلامه طُهمانَ في مثلِ تلك العُدّة على مثل تلك الهيئة، فَحَمَل عليه شبيبٌ فقتله، وقال: إن كان هذا الحجَّاج فقد أرَحْتُكم منه.
ثمّ إنّ الحجَّاج خرج ارتفاعَ النهار من القَصْر فقال: ائتوني ببَغْلٍ أركبُه ما بَيْني وبين السَّبَخة، فأتِيَ ببغل محجَّل، فقيل له: إنّ الأعاجمَ أصلحك الله تَطيَّرُ أن تركَب في مثل هذا اليوم مثلَ هذا البَغل، فقال: أدنُوه مِنّي، فإن اليوم يومٌ أغرّ محجَّل، فركِبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثمّ خرج في أعلى السّبَخة، فلمَّا نظر الحجاج إلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستِّمئة فارس، فلما رأى الحجَّاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبْرة بنُ عبد الرحمن إلى الحجَّاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قِفْ على أفواه السكَك، فإن جاؤوكم فكان فيكم قتالٌ فقاتِلوا، فانْطلق حتَّى وَقف في جماعة الناس ودَعا الحجَّاج بكرسيّ له فقَعد عليه، ثمّ نادى: يا أهل الشام، أنتم أهلُ السَّمع والطاعة والصَّبر واليَقين، لا يغلبنّ باطلُ هؤلاء الأرجاس حقَّكم، غضّوا الأبصار، واجثُوا على الرّكَبِ، واستقبلوا القوم بأطراف الأسِنَّة، فجثوا على الركب، وأشرَعوا الرّماح، وكأنَّهم حَرّة سوداء، وأقبَل إليهم شبيب حتَّى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كَرَاديسَ، كتيبة معه، وكُتيبة مع سُويد بن سُليم، وكتيبة مع المحلّل بن وائل، فقال لسويد. احمِل عليهم في خيلِك فحَمَل عليهم فَثبتوا له، حتَّى إذا غَشِيَ أطراف الأسنَّة وَثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطَعنوهم، قُدُمًا حتَّى انصَرف، وصاحَ الحجَّاج: يا أهلَ السَّمع والطاعة، هكذا فافعلوا قدّم كُرسيّ يا غلام، وأمر شبيب المحلَّل فحَمَل عليهم، ففعلوا به مِثلَ ما فعلوا