فيه رُخصة دون أحدٍ؛ فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حلَّ من الآخر شيء فما حرِّم ذلك من الأوّل؛ بل الأوّل الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمَّل فيه أسرع؛ وكان الحقّ أولَى بالذي أراد أن يصنع أوّلًا، فلا يدعوك إلى الأمْن من البلاء اغترارٌ بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء؛ فإن مَنْ أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحلّ ذلك مني، لم يحْرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنتْه الرّخصة أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي أسَّست من ذلك أبخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيتَ بقوّة، وكن من الشاكرين. فإن الله جلّ وعزّ زائدٌ مَنْ شكره، وعْدًا منه حقًّا لا خُلفَ فيه؛ فمن راقب الله حفظَه، ومن أضمر خِلافه خَذله، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولسنا مع ذلك نأمن مِنْ حوادث الأمور وبَغتَات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي؛ فإن تعجّل بي أمر كنت قد كُفيت مؤونة ما اغتممت له، وسترتَ قُبْح ما أردتَ إظهاره؛ وإن بقيتُ بعدك لم تكن أوغرت صدري، وقطعت رحمِي؛ ولا أظهرت أعدائي في اتّباع أثرِك، وقبول أدبك، وعملٍ بمثالك.
وذكرتَ أن الأمور كلها بيد الله؛ هو مدبّرها ومقدّرها ومصدّرها عن مشيئته؛ فقد صدقْتَ؛ إن الأمور بيد الله، وقد حقّ على من عَرَف ذلك ووصفه العملُ به والانتهاءُ إليه. واعلم أنّا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعًا، ولا دفعنا عنها ضرًّا، ولا نلنا الذي عرفتَه بحولنا ولا قوّتنا؛ ولو وُكِلْنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعُفت قوّتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا؛ ولكن الله إذا أراد عزمًا لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عَقْده؛ أحكم إبرامَه، وأبرم إحكامه، ونوّر إعلانه، وثبَّت أركانه؛ حين أسس بُنيانه؛ فلا يستطيع العباد تأخيرَ ما عجَّل، ولا تعجيل ما أخَّر؛ غير أن الشيطان عدوٌّ مُضلٌّ مُبين؛ قد حذَّر الله طاعتَه، وبيّن عداوته، ينزع بين ولاة الحقّ وأهل طاعته، ليفرّق جمعهم، ويشتِّت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرّأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا؛ وقد قال الله عز وجل في كتابه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(١). ووصف الذين اتقوا فقال: {إِذَا مَسَّهُمْ