عنك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياقُ إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حالِ الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرّفني الإجابة ومسَّكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلّا عن رأيك، ولم أقدم إلّا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمْني أجل دونك. والله يا أميرَ المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينتُ ما لو تُعرَض لي الدنيا كلُّها لاخترت عليها قربَك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إنّ الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدْر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيّتك غاية أمنيّتك، فيصلع لك جماعتَهم، ويجمع ألفتهم، ويلمّ شَعثَهم، حفظًا لك فيهم، ورحمةً لهم، وإنما هذا للتمسُّك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقُّه. وفارقتُ يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسّكون بحبلك، نازلون على حُكمك، طالبون لعفوِك، واثقون بحلْمك، مؤمّلون فضْلك، آمنون بادرتَك، حالُهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالُهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمُّده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدّم عنده لمسألتهم.
وايم الله يا أميرَ المؤمنين لئن كنتُ قد شخصتُ عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مُرَّاقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميلَ فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويُمْنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوّفِهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدّمتُ إليهم إلّا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمركَ، ولا سرت فيهم إلا على حدِّ ما مثّلتَه لي ورسمتَه، ووقفتَنِي عليه، ووالله ما انقادوا إلّا لدعوتك، وتوحّدِ الله بالصنّع لك، وتخوّفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضيًا ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتُك عليّ عظمًا؛ إِلا ازددتُ عن شكرك عجزًا وضعفًا، وما خلق الله أحدًا من رعيّتك أبعدَ من أن يُطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلّا أن أكون باذلًا