لعليّ: سر على بركة الله، فقال عليّ: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذًا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير؛ فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلَا مَرْو، وصارا إلى منزل عليّ، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس؛ فدعا عليّ بالغداء فطعما، وأكلَ معهما رجاء الخادم، وكان عازمًا على ألّا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كُل فإنك جائع، ولا رأْيَ لجائع ولا حاقن؛ فلما رُفع الطعام قال له عليّ: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على المَاشَان؛ فإِن رأيتَ أن تصير إليه فعلت. فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمَّل تأخير المناظرة فيها؛ ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى عليّ، وأبلغه رسالته. فلما فضّ الكتاب فنظر إلى أوّل حرف منه سُقط في يده، وعلم أنه قد حلّ به ما يخافُه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتابه وعماله - وكان رحل ومعه وقْر من قيود وأغلال - فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر أن أمير المؤمنين ولّاه ثغورَهم لما انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق عليّ بن عيسى، وما أمره به فيه وفي عمّاله وأعوانه، وأنه بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصّة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحقّ. وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف، فدعا بعليّ بن عيسى وولدِه وعماله وكُتَّابه، فقال: اكفوني مؤنتَكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم. ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذّمة من رجل كانت لعليّ عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو عماله وأخفاها ولم يظهر عليها؛ فأحضر الناس ما كانوا أودِعوا إلّا رجلًا من أهل مَرْو - وكان من أبناء المجوس - فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى عليّ بن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرًّا: لك عندي مال، فإن احتجتَ إليه حملتُه إليك أوّلًا فأوّلًا، وصبرت للقتل فيك؛ إيثارًا للوفاء وطلبًا لجميل الثناء، وإن استغنيْت عنه حبستُه عليك حتى ترى فيه رأيك. فعجب عليّ منه، وقال: لو اصطنعتُ مثلك ألف رجل ما طمِع فيَّ السلطان ولا الشيطان أبدًا. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالًا وثيابًا ومسْكًا، وأنه لا يدري ما قدر ذلك، غير أنه أودعه