قوم قد ضرّستهم الحروب، وأدّبتهم الشدائد، وجلُّهم منقاد إليّ، مسارع إلى طاعتي، فإن وجّهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا تَعظم نكايتهم في عدوّه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته. فقال محمد: فإني موليك أمرَهم، ومقوّيك بما سألت من مال وعُدّة، فعجّل الشخوص إلى ما هُنالك، فاعمل عملًا يَظهر أثرُه، وُيُحمَد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله، فولّاه الشام والجزيرة، واستحثّه بالخروج استحثاثًا شديدًا، ووجّه معه كنَفًا من الجند والأبناء.
وفي هذه السنة سار عبد الملك بن صالح إلى الشام، فلما بلغ الرقة أقام بها. وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء أجناد أهل الشام بجمع الرّجال بها، وإمداد محمد بهم لحرب طاهر.
* ذكر الخبر عن ذلك:
قد تقدّم ذكرى سببَ توجيه محمد إياه لذلك، فذكر داود بن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرّقة، أنفذ رسلَه، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبقَ أحد ممّن يرجَى ويذكر بأسه وغناءه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسًا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحدٌ إلا أجازه وخلع عليه وحمله، فأتاه أهلُ الشام: الزواقيل والأعراب من كلّ فَجّ، واجتمعوا عنده حتى كثروا. ثم إن بعضَ جند أهل خُراسان نظر إلى دابَّةٍ كانت أخذِت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلّق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزّواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كلّ فريق منهم صاحبَه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن أبي خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا، وقد ركب الزواقيلَ منّا ما قد بلغك، فاجمع أمرنا وإلا استذلُّونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كلّ يوم. فقال: ما كنت لأدخل في شَغْب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة. فاستعدّ الأبناء وتهيؤوا، وأتوا الزواقيل وهم غارُّون، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولَهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم. وبلغ ذلك عبد الملك بن صالح، فوجّه إليهم رسولًا يأمرهم بالكفّ ووضع السلاح، فرموْه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالًا شديدًا،