للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأكثرت الأبناء القتل في الزوافيل: فأخبِر عبد الملك بكثرةِ مَنْ قتل - وكان مريضًا مدنَفًا - فضرب بيده على يد، ثم قال واذلّاه! تستضام العرب في دارها ومحلّها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشرّ من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان، واصبح الزّواقيل، فاجتمعوا بالرَّقة، واجتمع الأبناء وأهل خُراسان بالرافقة، وقام رجل من أهل حمْص، فقال: يا أهلَ حمْص، الهرب أهْوَنُ من العطب، والموتُ أهونُ من الذّل، إنكم بعُدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزّة بعد الذلة! ألا وفي الشرّ وقعتم، وإلى حَوْمة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم. النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! .

وقام رجل من كلب في غَرْز ناقته، ثم قال:

شُؤبُوبُ حَرْبٍ خابَ من يَصْلاها ... قَدْ شَرَّعَتْ فُرْسانُها قَناها

فأَوْرَدَ اللهُ لظىً لظاها ... إن غُمِرَت كلبٌ بها لحَاها

ثم قال: يا معشَر كلْب، إنها الرّاية السوداء، والله ما ولّت ولا عدَلْت ولا ذلّ ناصرها، ولا ضعف وليُّها، وإنكم لتعرفون مواقعَ سيوف أهل خُراسان في رقابكم، وآثار أسنَّتهم في صدوركم. اعتزلوا الشرّ قبل أن يعظم، وتخَطَوْه قبل أن يضطرم. شأمَكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطينيّ خير من العيش الجزَريّ. ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي.

ثم سار وسار معه عامة أهل الشام، وأقبلت الزّواقيل حتى أضرموا ما كان التّجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان مع جَماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوّفًا لطوق بن مالك. فأتى طوقًا رجل من بني تَغْلِب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإنّ مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مدّ أهلُ الجزيرة أعينَهم إليك، وأمّلوا عونَك ونصرَك. فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنِها، ولا كنت في أوّل هذا الأمر لأشهدَ آخره، وإني لأشدّ إبقاء على قومي، وأنظرُ لعشيرتي منْ أن أعرِّضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السّلامة إلا في الاعتزال.

<<  <  ج: ص:  >  >>