السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله. قال: فابتدأت أغنية من غير أن يسألني؛ لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك؛ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها؛ ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قال: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي:
ما زالَ يَعْدُو عليهمْ ريبُ دهرهمُ ... حتى تَفَانَوْا وريْبُ الدَّهرِ عَدَّاءُ
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئًا غير هذا! قالت: يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه؛ وما أردت ما تكرهه؛ وما هو إلا شيء جاءني. ثم أخذت في غناء آخر:
ما اختلفَ الليلُ والنَّهَار ولا ... دارت نُجوم السّماء في الفَلكِ
إلا لنقل النَّعيم من مَلِك ... عانٍ بحُبِّ الدُّنيا إلى مَلِكِ
ومُلْكُ ذي العرشِ دائم أَبدًا ... ليس بفانٍ ولا بمشتَركِ
فقال لها: قومي غضب الله عليك! قال: فقامت وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسمية زبّ رُباح، وكان موضوعًا بين يديه فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته - قال إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا ذلك - فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية؛ ثم ما كان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك ويديم لك، ويكبت عدوك. فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتًا من دجلة (قضى الأمر الذي فيه تستفتيان) فقال: يا إبراهيم، أما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله ما سمعت شيئًا - وقد كنت سمعت - قال: تسمع حسًا! قال: فدنوت من الشط فلم أر شيئًا، ثم عاودنا