أولًا: كانت المحنة في بدايتها ولم يبلغ الأمر من الشدة إلى هذا الحدّ حتى يُغلظ المأمون في ردّه على العلماء المخالفين لرأيه وإنما اشتد الصراع في عهد المعتصم كما سنرى إن شاء الله. ثانيًا: لم يكن المعروف عن المأمون التسرُّع والتهوّر والشدة والغلظة مع رعيته فكيف مع العلماء، وكان صاحب أدب رفيع في الكلام والخطاب فلم يعرف غنه استخدام الكلمات النابية بل كان أديبًا شاعرًا راويًا للحديث ويروى عنه الحديث، وينتقي لكلامه العبارات الجميلة والمؤثرة أما أن يبحث عن عيوب العلماء الشخصية أو يتهمهم بالبخل أو الربا أو الانتساب كذبًا وزورًا وغير ذلك من الأمور التي تخدش في عدالة الراوي ناهيك عن كونه إمامًا فاضلًا صالحًا والحق يقال فإن أحد المبتدعة ممن لا شغل له إلا الغمز واللمز قد جلس وتمعّن وفكّر فانتج فكره الخبيث هذه العبارات ثم روّج لها بين الناس فالتقطها الأخباريون الجماعون ثم سجّلها الطبري كعادته في تسجيل كل ما تسمع به أذناه من الأخبار سقيمها أو صحيحها وإن كانت مستشنعة لا أصل لها من الصحة حسب تعبيره هو. ثالثًا: لم يبلغ الصراع يومًا بين أئمة أهل السنة والجماعة وخصومهم أو قل لم يبلغ الصراع يومها بين أصحاب الآراء المختلفة والمذاهب أن ينعتوا من لم يقل بخلق القرآن بأنه معتقد الشرك وأنه لا إيمان له وما إلى ذلك، كل ما في الأمر أن المأمون ارتكب خطيئة كبيرة وذلك من سوء مصيبته أن عمد إلى أمور العقيدة فخاض فيها واقتنع برأي بعض رؤوس المعتزلة وخاصة في مسألة خلق القرآن فأراد من حرصه على الإسلام وأهله - حسب تصوره - أن يفرض ما اقتنع به من البدعة على رعيته فبدأ بالعلماء فبدأت محنتهم عندها فكان أن صبر منهم من صبر وصمد كالطود الشامخ وفي مقدمتهم إمام السنة يوم المحنة أحمد بن حنبل الذي قال فيه الشافعي (شيخه): خرجت من العراق فما خلفت بها رجلًا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل (تأريخ بغداد/ ٤/ ٤١٩). =