تَظْهَرُ في وجهِه محاسنُها ... قد أَثَّرَتْ فيه أَحسنَ الأَثرِ
خُذ مقلتِي يا رسولُ غاريةً ... فانظر بها واحتَكمْ على بصرِي
قال أبو العتاهية: وجّه إليّ المأمون، فصرتُ إليه، فألفيتُه مطرقًا مفكِّرًا، فأحجمتُ عن الدنوّ منه في تلك الحال؛ فرفع رأسه، فنظر إليّ وأشار بيده، أن ادنُ، فدنوتُ ثم أطرق مليًّا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق، شأنُ النفس الملل وحُبّ الاستطراف، تأنس الوحدة كما تأنس بالألْفة، قلت: أجَل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: وما هو؟ قلت:
لا يُصلِح النفسَ إذ كانت مُقَسَّمَةً ... إلَّا التَّنقُّلُ من حالٍ إلى حالِ (١)
وذُكر عن أبي نزار الضّرير الشاعر أنه قال: قال لي عليّ بن جَبَلة: قلتُ لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحتُ أميرَ المؤمنين بمدْح لا يحسِن مثله أحدٌ من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أنشدْنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق؛ فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفوْنا عنه وجعلنا ذلك ثوابًا بمديحه؛ وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دُلف القاسم بن عيسى؛ فإن كان الذي قال فيك وفيه أجودُ من الذي مدحَنا به ضربنا ظهره، وأطلْنا حبسَه، وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيتُه بكلّ بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه. فقلت: يا سيّدي، ومن أبو دُلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرضْ ذلك على الرجل. قال عليّ بن جبلة: فقال لي حُميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحبُّ إليّ، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دُلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:
(١) راوي الخبر أبو العتاهية (توفي ٢١٠ هـ) قال الذهبي في ترجمته: الأديب الصالح الأوحد وكان أبو نواس يعظمه ويتأدب معه لدينه ويقول ما رأيته إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي [سير أعلام ١٠/ ٩٥] وكان أبو العتاهية يقول في الغزل والهجاء والمديح قديمًا ثم تنَسّك وعدل عن ذلك إلى الشعر في الزهد وطريقة الوعظ فأحسن القول فيه وجوّد وأربى على كل من ذهب ذلك المذهب [تأريخ بغداد ٦/ ٢٥١].