فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجة الليل على حسب ما كان؛ فلم يزل كذلكَ أيامًا، ثم انحدر في خاصته حتى نزل إلى روذ الرَّوذ، وتقدَّمَ حتى شارف الموضع الذي به الرَّكوة التي واقعه عليها بابك في العام الماضي؛ فنظر إليها، ووجد عليها كُردوسًا من الخرمية؛ فلم يحاربوه ولم يحاربهم؛ فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرُّون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد؛ فلم يزل مُواقفهم إلى قريب من الظهر، ثم رجع إلى عسكره، فمكثَ فيه يومين، ثم انحدرَ أيضًا في أكثر مما كان انحدر في المرةِ الأولى، فأمرَ أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان واقفهم في المرة الأولى، ولا يحرِّكهم ولا يهجم عليهم.
وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رؤوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا له فيها، ويختاروا له في رؤوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة، فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى؛ فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك؛ فلما كانَ بعد يومين انحدر من معسكره إلى روذ الروذ، وأخذ معهُ الكِلغَريَّة - وهم الفعلة - وحملوا معهم شِكاء الماء والكعك؛ فلما صاروا إلى روذ الروذ وجَّه أبا سعيد، وأمرهُ أن يواقفهم أيضًا على حسب ما كان أمرهُ به في اليوم الأوَّل، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل؛ حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المِصعد خندقًا؛ فلم يترك مسلكًا إلى جبل منها إلا مسلكًا واحدًا. ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره. قال: فلما كانَ اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرَّجالة كعكًا وسويقًا، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكَّلَ بمعسكرهِ ذلك مَن يحفظه، وانحدروا، وأمر الرَّجالة أن يصعدوا إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجونه إليهِ، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية ووجَّهَ أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، وألا يأخذ الفرسان سروج دوابهم. ثم خطَّ الخندق، وأمر الفعلةَ بالعمل فيهِ، ووكَّلَ من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحتَ الشجر في ظل يرعون دوابهم،