فلما صلى العصر أمر الفعلة بالصعود إلى رؤوس الجبال التي حصنها مع الرَّجالة، وأمر الرجالة أن يتحارسوا ولا يناموا، ويدعو الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فيصيّرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كلِّ كردوس وكُردوس قَدْر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس ألَّا يلتفتنَّ كل واحد منكم إلى الآخر؛ ليحفظ كلُّ واحد منكم ما يليه؛ فإن سمعتم هدَّةً فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكلُّ كردوس منكم قائم بما يليه، فإنهُ لا بهدة يأخذ. فلم يزل الكراديس وقوفًا على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرَّجالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، وتقدَّمَ إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كلُّ قوم منهم المواضع التي لهم؛ وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتنّ أحدٌ إلى أحد. فلم يزالوا كذلكَ إلى الصباح، ثم أمرَ مَنْ يتعاهد الفرسان والرَّجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم؛ فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمهُ بينَ الناسِ، وأمر القوَّادَ أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاهُ رسولُ بابك ومعهُ قِثَّاء وبِطيخ وخيار؛ يعلمهُ أنه في أيامه هذه في جفاء؛ إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابهِ، وأنه أحبُّ أن يُلطفه بذلك، فقال الأفشين للرسول: قد عرفتُ أيَّ شيءٍ أرادَ أخي بهذا، إنما أرادَ أن ينظر إلى العسكر، وأنا أحقُّ مَن قبل برَّه، وأعطاه شهوته؛ فقد صدق، أنا في جفاء. وقال للرَّسول: أما أنتَ فلا بدّ لكَ أن تصعد حتى ترى معسكرنا، فقد رأيت ما ها هنا، وترى ما وراءنا أيضًا؛ فأمرَ بحمله على دابةٍ، وأن يُصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ خندق برزند، ولينظر إلى الخنادق الثلاثة، ويتأملها، ولا يخفى عليه منها شيء، ليخبر به صاحبه. ففُعل به ذلك؛ حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب فأقرئه مني السلام - وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى العسكر - ففعل ذلكَ مرَّة أو مرتين، ثم جاءت الخرَّمية بعد ذلكَ في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريبًا من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمرَ الأفشين الناس ألا ينطق أحدٌ منهم، ففعلوا ذلكَ ليلتين أو ثلاث ليالٍ، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلكَ غير مرَّةٍ، فلما أنسوا هيَّأَ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجَّالة، فكانت الرجالة ناشبة، فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون؛ فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيهِ في كل مرة،