وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيًّا يدخل بين الصفين فرَقًا أن يقتلهُ إنسان أو يجرحه ممن قتل أولياءه؛ أو صنع به داهية. وكانَ قد صار إلى الأفشين نساءٌ كثيرٌ وصبيان؛ ذكروا أن بابك كان أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشينُ فجُعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكانَ كلُّ من جاء فعرف امرأة أو صبيًا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنَّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه؛ فجاء الناسُ، فأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، وبقي منهم ناسٌ كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينهُ قَدر نصف ميل، أنزِل بابك يمشي بين الصَّفين في دُراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر؛ فنزلوا به راكبًا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليهِ لَطموا على وجوههم، وصحاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس؛ تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله. قالوا: كان يحسن إلينا. فأمر به الأفشين فأدخل بيتًا، ووكل بهِ رجالًا من أصحابه.
وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار إلى عيسى بن يوسف بن اصطفانوس؛ فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معهم في عسكره ووكلَ بهِ، أعلِمَ بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس؛ فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجّه إليهِ بعبد الله، فوجهَ به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صارَ في يد الأفشين حبسه مع أخيهِ في بيت واحد؛ ووكَّلَ بهما قومًا يحفظونهما.
وكتبَ الأفشين إلى المعتصم بأخذهِ بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمرهُ بالقدومِ بهما عليه، فلما أرادَ أن يسير إلى العراق وجَّهَ إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافرَ بكَ، فانظر ما تشتهي من بلاد أذْرَبيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي، فوجهَ معهُ الأفشين قومًا في ليلةٍ مُقمرةٍ إلى البذ حتى دار فيهِ، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصباح، ثم رده إلى الأفشين، وكان الأفشين قد وكَّلَ بهِ رجلًا من أصحابه فاستعفاهُ منه بابك، فقال لهُ الأفشين: لم استعفيتَ منه؟ قال: يجيء ويده ملأى غمَرا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحُها، فأعفاهُ منه.