كعادتهم، عند مَضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيْشٍ تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: إن الحرب اليوم أحسن منها أمس؛ كان أمس يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم.
فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعني أشناس - ما صنع بنا اليوم! أليسَ الدخولُ إلى بلاد الرومِ أهونَ من الذي سمعناهُ اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل - وكان عند عمرو خبر -: يا أبا العباس سيكفيكَ اللهُ أمره، عن قريبٍ أبشر، فأوهم أحمدَ أن عندهُ خبرًا، فألَّح عليه أحمد يسألهُ؛ فأخبره بما هم فيه؛ وقال: إن العباس بن المأمون قد تمَّ أمرُه، وسنبايعُ له ظاهرًا، نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما من قريب. ثم قال له: أشير عليك أن تأتيَ العباس، فتقدم فتكونُ في عداد من مال إليه. فقال له أحمد: هذا أمر لا أحسبهُ يتم، فقال له عمرو: قد تمَّ وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي - قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولِّي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم - فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال لهُ أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمرُ يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوزَ ذلكَ فليس بيني وبينكم عمل؛ فذهبَ الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرًا قد ذكره لأحمد بن الخليل فقال له: ما كنت أحب أن يطَّلع الخليل على شيءٍ من أمرنا؛ أمسكوا عنه؛ ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما، فأمسكوا عنه.
فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصَّة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيّم بذلكَ إيتاخ، فقاتلوا وأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم؛ فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات.
وكان قوَّادُ ملك الروم عند ما نزلَ بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج؛ لكل قائد وأصحابه عدَّة أبرجة؛ وكان الموكَّل بالموضع الذي انثلمَ من السور رجلًا من قوَّادِ الروم يقالُ لهُ وندوا، وتفسيره بالعربية "ثَور" فقاتل الرَّجُلُ وأصحابه قتالًا شديدًا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابهِ، لم يمدَّهُ ياطس ولا غيره