فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كانَ الناسُ يستقونَ مِنه؛ وكانَ بينهُ وبين عَمُّورية ثلاثة أميال، ولم يأذن لهُ في المصير إليهِ حتى فتحَ عَمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور؛ وذلكَ أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر؛ فمضى في طريق الجادَّة مرحلة، ثم رجع إلى عمُّورية، وأمر الناسَ بالرجوعِ، ثم عدل عن طريق الجادةِ إلى طريق وادي الجَوْر.
ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم؛ فساروا في طريق نحوًا من أربعين ميلا؛ ليس فيه ماء؛ فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه؛ فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وخرب.
وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعًا، وهم مقدار ستة آلاف رجل؛ قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء وقد كانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم فيما ذكر يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان وقفل بعد خمسة وخمسين يومًا.
وقال الحسن بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:
أَثبتَ المَعْصومُ عزًّا لأَبي ... حَسَنٍ أَثبَتَ من رُكن إضم
كلُّ مجد دُونَ ما أَثَّلهُ ... لبَنِي كاوُسَ أَملاكِ العَجَمْ