فأتكلَّم، قال: قل، فقال: والله يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت الأمين والمأمون ورأيت المعتصم صلواتُ الله عليهم، ورأيت الواثق بالله، فوالله ما رأيتُ رجلًا على منبر أحسن قوامًا، ولا أحسن بديهًا، ولا أجهر صوتًا، ولا أعذب لسانًا، ولا أخطب من المعتزِّ بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرًا، وأمتعنا بك؛ فلما كان يوم الأحد؛ وذلك يوم الفِطْر وجد المتوكِّل فترة، فقال: مُروا المنتصرَ فليصلِّ بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين؛ قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين؛ ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجُف الناس بِعِلَّته، ويتكلموا في أمره، فإن رأى أمير المؤمنين أن يَسُرَّ الأولياء ويكْبِت الأعداء بركوبه فعل. فأمرهم بالتأهب والتهيُّؤ لركوبه؛ فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
وذُكر أنه ركب يوم الفِطْر؛ وقد ضربت له المصافُّ نحوًا من أربعة أميال، وترجَّل الناس بين يديْه، فصلَّى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حِفْنةً من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي رأيتُ كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عزَّ وجلَّ، فلمَّا كان من غد يوم الفطر لم يدعُ بأحد من ندمائه؛ فلما كان اليوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال - أصبح نشيطًا فرحًا مسرورًا، فقال: كأني أجد مسَّ الدم، فقال الطَّيْفُوريَّ وابن الأبرش - وهما طبيباه: يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير؛ افعلْ، ففعل؛ واشتهى لحم جَزور، فأمر به فأحضِر بين يديه، فاتَّخذه بيده.
وذكر عن ابن الحفصيِّ المغنِّي أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصيّ: وما كان أحدٌ ممن يأكل [بين يديه] حاضرًا غيري وغير عثعث وزُنام وبُنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ؛ فإنه جاء مع المنتصر. قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معًا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم؛ لم يدع بأحد منهم بعد. قال ابن الحفصيّ: فالتفت إليَّ أمير المؤمنين، فقال: كلْ أنتَ وعثعث بين يديّ. ويأكل معكما نصر بن سعيد الجِهْبذ؛ قال: فقلت: