ثم تلقّوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل؛ فذلَفُوا نحو باب الشمّاسية، وقد رتب محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العُدّة الكاملة، والعدّة المتظاهرة؛ معاقلهم التوكّلُ على ربِّهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم.
ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، يأمرُهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم؛ فبادأهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحروبهم، وعادوْهم أيامًا بجموعهم وعدادهم، مُدلّين بعدّتهم مقدّرين ألا غالب لهم؛ ولا يعلمون بالله أنّ قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحقّ عليهم؛ حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفَر وافوْا باب الشماسيّة بأجمعهم قد نشروا أعلامهم، وتنادوْا بشعارهم، وتحصّنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبْي النساء، واستباحة الأموال؛ فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يُصغوا إليها، وبدؤوا بالحرب منابذين لها، فتسرّع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم؛ فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم؛ فقتل الله من حُماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقادة باطلهم جماعة كثيرًا عَددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي مَنْ نالته أكثر عامتهم.
فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أنْ قد أكذب ظنونَهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم؛ استنهضوا جيشًا من سامُرّا من الأتراك والمغاربة في العتَاد والعُدّة والجلَد والأسلحة في الجانب الغربيّ، طالبين المعرّة، ومؤمّلين أن ينالوا نيلًا من أهله باشتغال إخوانِهم في الجانب الشرقيّ بأعدائهم.
وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شَحَن الجانبين جميعًا بالرّجال والعُدّة، ووكَّل بكلّ ناحية مَنْ يقوم بحفظها وحراستها، ويكفّ عن الرعية بوائقَ أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدًا في جَمْع كثيف، ورتَّب على السور