مَنْ يراعيه في الليل والنهار وبث الرجال ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرّفهم، فيعامل كلَّ حال لهم بحال يفتّ الله في أعضادهم بها.
فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي البابَ المعروف بباب قُطْربّل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقيّ من دجْلة في عدد لا يسعه إلَّا الفضاء ولا يحمله إلَّا المجال الفسيح، وقد تواعَدُوا أن يكون دنوّهم مِن الأبواب معًا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقَّهم بباطلهم؛ أملًا كاذبًا غير صادق كادهم الله فيه، وظنًا خائبًا لله فيه قضاء نافذ.
وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبُندار بن موسى الطبريّ مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربُّل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرّف مع كتابه، والتوقّف عن الحرب حتى تسبق التذكرة الأسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمعٍ يقابل جمعهم، مستبصرين في حقّ الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوّهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل. فتلقاهم ومَنْ معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنَّتهم، وأشرعوا لِنُحورهم أسنَتهم، لا يشكون أنهم نُهزة المختلس، وغنيمة المنتهب؛ فنادوْهم بالموعظة نداء مسْمعًا، فمجّتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدَقهم أولياءُ الله في لقائهم؛ بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأنّ الله لا يخلِف وعده فيهم؛ فجالت الخيل بهم جَوْلة، وعاودت كَرّة بعد كرّة عليهم، طعنًا بالرماح، وضربًا بالسيوف، ورَشقًا بالسهام؛ فلما مسّهم ألم جِراحها، وكلَمتْهم الحربُ بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها ظمأ إلى دمائهم؛ ولَّوا أدبارَهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتِلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصّنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية؛ فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبَر إليهم أشياعُهم الغاوُون من عسكرهم بباب الشمّاسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم؛ فأنهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاهَ بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرةٍ لا يتخوّنها فتور،