للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يصلح لقود الجيش وسدّ الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلَّا رجل قد تكامَلَتْ فيه خلالٌ أربع: حَزْمٌ يُقَيِّف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهوّر والتغرير في الأشياء إلَّا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمّات مع تواتر حوائجها، وجودٌ يَهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها، وأما الثلاث، فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزّيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث؛ إذ لا تؤمن من نوائب الزمان، وأما الاثنتان؛ فإسقاط الحاجب عن الرّعيّة، والحكم بين القويّ والضعيف بالسويّة، وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد؛ فما ترون؛ وقد اخترت رجالًا لهم من مواليّ، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطِره السرّاء، ولا تدهشه الضرّاء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاءه، وهو كالحريش في أصل السِّلام؛ إن حُرّك حمل، وإن نهش قتل؛ عُدّته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العدد بقلب أشدّ من الحديد، طالبٌ للثأر، لا يفلّه العساكر، باسلُ البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلَب، ولا يفوته من هرب؛ وارِي الزناد، مُطّلع العِماد، لا تُشْرهه الرّغائب، ولا تُعجزه النوائب؛ إن وليَ كفى، وإن وعد وَفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظِلّه لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل؛ يفوق مَنْ ساماه، ويُعجز مَنْ ناواه، ويُتعب مَنْ جاراه، وينعش منْ والاه.

فقام إليه رجل من القوم، فقال: قد جمع الله فيك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخَصّك بإرث النبوّة، وألقى إليك أزمّة الحكمة، ووفّر نصيبَك من حِباء الكرامة؛ وفسَّح لك في الفَهْم، ونوّر قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن؛ فأفصح عن القلب البيانُ، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبئ على من لم يُحْبَ بما حُبيتَ من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع، فنطَقت الحكمة على لسانك، فما ظننتَه فهو صواب، وما فهمته فهو الحقّ الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيجُ وحدِه، وقَريع دهرِه، لا يبلغ كليَّة فضله الوصفُ، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت.

ثم أمر أمير المؤمنين بالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار

<<  <  ج: ص:  >  >>