الخبيث، فلحقوا به مرعوبين، فراع ذلك الخبيث، فدعى برئيسين من رؤساء جيشه الذي كان هناك، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما؛ فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد، وكثرة عدد أهله وإحكام عُدّتهم؛ وأنّ الذي عاينا من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العِدّة التي كانا فيها، فسألهما: هل علما مَنْ يقود الجيش؟ فقالا: لا قد اجتهدنا في علم ذلك، فلم نجد من يصدُقنا عنه، فوجّه الخبيث طلائعَه في سُميريّات لتعرف الخبر، فرجعت رسله إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه؛ ولم يقف أحدٌ منهم على مَنْ يقوده ويرأسه، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فبادر بالإرسال إلى عليّ بن أبان، يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه، ووافى الجيش، فأناخ بإزائه؛ فلما كان اليوم الذي كانت فيه الوقعة وهو يوم الأربعاء، خرج الخبيث ليطوف في عسكره ماشيًا، ويتأمل الحال فيمن هو مقيم معه من حزبه ومَنْ هو مقيم بإزائه، من أهل حربه، وقد كانت السّماء مطرت في ذلك اليوم مطرًا خفيفًا والأرض ثريّة تزل عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار، ثم رجع فدعا بدواة وقرطاس لينفذ كتابًا إلى عليّ بن أبان، يعلمه ما قد أظلّه من الجيش ويأمره بتقديم مَنْ قدر على تقديمه من الرّجال، فإنه لَفِي ذلك إذ أتاه المكتنى أبا دُلف - وهو أحد قوّاد السودان - فقال له: إن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزَّنج، وليس في وجوههم مَنْ يردّهم حتى انتهوْا إلى الحبل الرابع. فصاح به وانتهره، وقال: اغرُب عني فإنك كاذب فيما حكيتَ؛ وإنما ذلك جزع دخلك لكثرة ما رأيتَ من الجمع، فانخلع قلبُك، ولست تدري ما تقول.
فخرج أبو دلف من يديه، وأقبل على كاتبه، وقد كان أمر جعفر بن إبراهيم السجّان بالنداء في الزَّنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجّان، فأخبره أنه قد ندب الزَّنج، فخرجوا، وإنّ أصحابه قد ظفروا بسُمَيريّتين، فأمره بالرجوع لتحريك الرّجّالة، فرجع ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا، حتى أصيب مفلح بسهم غَرَبٍ لا يُعرف الرامي به، ووقعت الهزيمة، وقَويَ الزنج على أهل حربهم، فنالوهم بما نالوهم به من القتل، ووافى الخبيث زنجه بالرؤوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوْها بين يديه، فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت كلّ شيء، وجعل الزّنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادوْنها بينهم.