يعرّفونه خبر البحرانّي وكثرة جمعه، وأنه يقدّر أن يخرج من نهر العباس إلى دِجْلة فيسبق إلى نهر أبي الأسد ويعسكر به، ويمنعه المِيرة، ويحولُ بينه وبين من يأتيه أو يصدر عنه، فرجعت إليه طلائعهُ بخبره، وعظم أمر الجيش عنده، وهيبته منه؛ فرجع في الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالتْه ونالت أصحابه، وأصابهم وباء من تردّدهم في تلك البطيحة، فكثر المرض فيهم، فلما قربوا من نهر العباس جعل يحيى بن محمد سليمان بن جامع على مقدّمته، فمضى يقود أوائل الزَّنْج، وهم يجرّون سفنهم، يريدون الخروج من نهر العباس، وفي النهر للسلطان شذوات وسميريات تحمي فوّهته من قبل أصغجون، ومعها جَمْعٌ من الفُرْسان والرّجالة، فراعه وأصحابه ذلك، فخلَّوْا سفنهم، وألقَوْا أنفسَهم في غربيّ نهر العباس، وأخذوا على طريق الزّيدان ماضين نحو عسكر الخبيث، ويحيى غارّ بما أصابهم، لم يأتِه علم شي من خبرِهم، وهو متوسِّط عسكره، قد وقف على قنطرة قُورَج العباس في موضع ضيّق تشتدّ فيه جرية الماء، فهو مشرف على أصحابه الزَّنْج وهم في جرّ تلك السفن التي كانت معهم، فمنها ما يغرق، ومنها ما يسلم.
قال محمد بن سمعان: وأنا في تلك الحال معه واقف، فأقبل عليّ متعجّبًا من شدّة جرية الماء وشدّة ما يلقى أصحابه من تلقّيه بالسفن، فقال لي: أرأيتَ لو هجم علينا عدوّنا في هذه الحال، مَنْ كان أسوأ حالًا منا! فما انقضى كلامُه حتى وافاه طاشتمر التركيّ في الجيش الذي أنفذه إليهم أبو أحمد عند رجوعه من الأبُلّة إلى نهر أبي الأسد، ووقعت الضّجّة في عسكره.
قال محمد: فنهضت مُتشوقًا للنظر؛ فإذا الأعلام الحمر قد أقبلتْ في الجانب الغربيّ من نهر العباس ويحيى به، ولما رآها الزَّنْج ألقَوْا أنفسهم في الماء جملة، فعبروا إلى الجانب الشرقيّ، وعرِيَ الموضع الذي كان فيه يحيى، فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلًا، فنهض يحيى عند ذلك، فأخذ درقتَه وسيفه، واحتزم بمنديل، وتلقَّى القوم الذين أتوْه في النفر الذين معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام، وأسرع فيهم الجراح، وجرح البحرانيّ بأسهم ثلاثة في عَضُدْيه وساقه اليسرى، فلما رآه أصحابه جريحًا تفرّقوا عنه، فلم يعرَف فيقصد له، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعَبَر به إلى الجانب الشرقيّ من النهر؛ وذلك وقت