من ذلك؛ وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع، والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالُهم والموطّنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموْا جهدَهم؛ حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحَدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقًا من أن يخْلُوَ موقف رجل منهم، فيدخل الخلل على سائر أصحابه.
فلمّا رأى أبو أحمد صبر هذه العصابة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجدًا، وأن يندب لذلك أنجادَ أصحابِه وغلمانه، وأضاف إليهم الفَعلة الذين كانوا أعِدّوا للهدم، فإذا تهيّأ لهم هدمُ شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم علِى السور فوضعوها، وصعِد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حدّ الدار المعرُوفة بالجُبّائيّ إلى الموضع الذي رتّب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقِه، ودور أصحابه، فتسهّل ما كان يصعُب بعد محاربة طويلة وشدّة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجدًا، ووُصل إلى مِنْبره فاحتُمِل، فأتِيَ به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقيّة جذِلًا مسرورًا، ثم عاد الموفَّق لهدم السور فهدَمه من حدّ الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجُبّائيّ. وأفضى أصحاب الموفّق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه؛ فانتُهبت وأحرقت؛ وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعضَ الناس عن بعض، فما يكاد الرجل يبصر صاحبَه، فظهر في هذا اليوم للموفّق تباشير الفتح، فإنهم لعلَى ذلك؛ حتى وصل سهمٌ من سهام الفسقة إلى الموفّق، رماه به غلام روميّ كان مع الفاسق يقال له: قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في الإثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومئتين، فستر الموفّق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف إلى المدينة مع الموفقية، فعوُلج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح، يشد بذلك قلوبَ أوليائه من أن يدخلها وَهْم أو ضعف، فزاد ما حَمَل نفسَه عليه من الحَركة في قوة عِلَّته، فغُلظت وعظم أمرُها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالَج به الجراح؛ واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوّة الفاسق عليهم؛ حتى خرج عن مدينته جماعةٌ