وأفرغ عليهم؛ فكان إحراق داره يتعذّر عليهم لما وصفنا، فأمر الموفّق بإعداد ظلال من خشب للشّذَا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطليّ بصنوف العقافير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطُليت به عدّة شَذَوات ورتّب فيها جميعًا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعًا من حُذّاق النقاطين وأعدّهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزَّنج.
فاستأمن إلى الموفّق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومئتين، وكان سبب استئمانه - فيما ذكر محمد بن الحسن - أنه كان ممّن امتحن بصحبته، وهو لها كارهٌ على علم منه بضلالته، وقال: كنتُ له على ذلك مواصلًا، وكنّا جميعًا ندبر الحيلة في التخلّص، فيتعذّر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرّق عنه أصحابه، وضَعُف أمره؛ شمّر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبتُ نفسًا بألّا أستصحب ولدًا ولا أهلًا، وأن أنجوَ وحيدًا؛ فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له: الرأي لك ما رأيت؛ إذ كنتَ إنما تخلّف ولدًا صغيرًا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيه حدثًا يلزمك عاره؛ فأمّا أنا فإنّ معي نساء يلزمني عارهنّ، ولا يسعني تعريضهنّ لسطوة الفاجر؛ فامضِ لشأنك؛ فأخبِرْ عني بما علمت من نيّتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته؛ وإن هيّأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معًا وصبرنا.
فوجّه محمد بن سمعان وكيلًا له يعرف بالعراقيّ، فأتى عسكر الموفّق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعدّ له الشذا، فوافتْه في السَّبَخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق، وأعاد الموفّق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان؛ وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومئتين، في أحسن زيّ، وأكمل عدّة، ومعه الشَّذَوات المطليّة بما وصفنا، وسائر شَذواته وسُميريّاته فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرَّجالة، فأمر الموفّق ابنَه أبا العباس بالقصد إلى دار محمد بن يحيى الصروف بالكرَنْبائيّ، وهي بإزاء دار الخائن في شرقيّ النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجْلة، وتقدّم إليها في