الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارّون، فقَتل منهم مقتلةً عظيمة، وأسر جمعًا من قوّاد الزَّنج، وأخذ لهم سلاحًا كثيرًا، وانصرف ومَنْ كان معه سالمين، فأتى بهم الموفّق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسوَّر جماعة منهم.
ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك شديدًا، وأخافهم ومنعهم النوم؛ فكانوا يتحارسون في كلّ ليلة، ولا تزال النَّفرة تقع في عسكرهم لمَا استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوَحشة؛ حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يُسمَع بالموفقيَّة.
ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلًا ونهارًا من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدّهم بالحرب، ويُسْهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرّفون المسالك، ويتدرَّبون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحّمها، ويصرُّون من ذلك على ما كانت الهيبة تحولُ بينهم وبينه؛ حتى إذا ظنّ الموفّق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صحّ عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلسًا عامًّا وأمر بإحضار قوّاد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجَّالتهم من الزنَّج والبِيضان، فأدخِلُوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم خاطبهم فعرّفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق ديَّن لهم من معاصي الله؛ وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر الزَّلَّة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على مَنْ لجأ إليه بفضله، فأجزل الصّلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة؛ وأن ما كان منه من ذلك يُوجب عليهم حقه وطاعته؛ وأنهم لن يأتوا شيئًا يتعرّضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم؛ أوْلى بهم من الجدّ والاجتهاد في مجاهدة عدوّ الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدّها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم؛ فهم أحرياء أن يُمْحضُوه نصيحتهم، ويجتهدوا في الوُلوج على الخبيث، والتوغُّل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، وإن مَنْ قصّر منهم استدعى من سلطانه إسقاطَ حاله وتصغير منزلته،