للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والطريقة التي سار عليها الطبري في كتابه هي طريقة المحدِّثين؛ بأن يذكر الحوادث مرؤية بمقدار ما عنده من الطرق، ويذكر السّند حتى يتصل بصاحبه، لا يبدي في ذلك رأيًا في معظم الأحيان؛ وهذه الطريقة هي التي سلكها في معظم الكتاب، وفيما عدا ذلك ينقل من الكتب؛ فيصرح باسم الكتاب أحيانًا، أو ينقل عن المؤلفين من غير تعيين الكتاب الذي نقل عنه أحيانًا.

وقد كان اعتماده هذا المنهج مثارًا للنقد عند بعض الباحثين، قالوا: إن سياقة الأخبار دون تمحيصها أمر لا يليق بالمؤرخ الناقد البصير؛ وإذا كانت طريقة رواية الخبر في المسند -ورجاله معروفون عند علماء الجرح والتعديل- تضمن صحة الأخبار وتمحيصها في الأخبار التي وقعت في الإسلام؛ فإن هذه الطريقة تقصُر عن ضمان صحة ذلك فيما قبل الإسلام، وخاصة وقد وقع في هذا التاريخ كثير من الأخبار الواهية، والقصص الزائفة، كالإسرائيليات وبعض أخبار الفرس؛ كما أورد أيضًا كثيرًا من الأحاديث الموضوعة كالأحاديث الواردة في بدء الخلق وسير الأنبياء؛ مما لا يرتضيه المحدِّثون.

وربما كان عذر الطبري في ذلك هو عذر رواة الحديث؛ فيذكرون الحديث بطرقه ورجاله؛ تاركين الحكم للقارئ؛ أمانة للعلم وإبراء للذمة؛ قال في مقدمة كتابه: "وليعلم الناظر في كتابنا أن اعتمادي في كلّ ما أحضرتُ ذكره فيه؛ مما شرطت أني راسمه فيه؛ إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها؛ دون ما أدرك بحجج العقول واستنبِط بفكر النفوس؛ إلا اليسير القليل منه؛ إذ كان العلم بأخبار الماضين، وما هو كائن من أبناء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانَهم إلا بأخبار المخبرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين؛ مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه؛ من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحّة ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يؤتَ في ذلك من قِبَلنا؛ وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا؛ وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدِّي إلينا" (١).


(١) تاريخ الطبري ١: ٧، ٨ (طبعة المعارف).

<<  <  ج: ص:  >  >>