فقال له رافع: إنَّك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال؛ والله إنّ الراكب المفرد ليخافُها على نفسه وما يسلُكها إلا مغرّرًا؛ إنها لخمس ليال جِياد لا يُصاب فيها ماء مع مَضَلَّتها، فقال له خالد: ويحك! إنه والله إنْ لي بدٌّ من ذلك، إنه قد أتتني من الأمير عَزمة بذلك، فمرْ بأمرك، قال: استكثروا من الماء؛ مَنِ استطاع منكم أن يصرّ أذن ناقته على ماء فليفعل؛ فإنها المهالك إلا ما دفع الله؛ ابْغنِي عشرين جَزورًا عظامًا سمانًا مَسانَّ. فأتاه بهنّ خالد، فعمد إليهنّ رافع فظمَّأهن، حتى إذا أجهدهنّ عطشًا أوردهنّ فشربن حتى إذا تملأَن عمَد إليهنّ، فقطع مشافرهنّ، ثم كَعمهنّ لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهنّ.
ثم قال لخالد: سر؛ فسار خالد معه مُغِذًّا بالخيول والأثقال؛ فكُلَّمَا نزل منزلًا افتظّ أربعًا من تلك الشَّوارف؛ فأخذ ما في أكراشها، فسقاه الخيل؛ ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء؛ فلما خشِيَ خالد على أصحابه في آخر يوم من المفازة قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: ويحكَ يا رافع! ما عندك؟ قال: أدركتَ الرِّيّ إن شاء الله؛ فلمَّا دنا من العلَمين، قال للناس: انظروا هل ترون شُجيرة من عَوْسج كقِعْدة الرجل؟ قالوا: ما نراها. قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون! هلكتم والله إذًا وهلكتُ؛ لا أبالكم! انظروا، فطلبوا فوجدوها قد قطعت وبقيت منها بقيَّة، فلمَّا رآها المسلمون كبَّروا وكبَّر رافع بن عميرة؛ ثم قال: احفروا في أصلها، فحفروا فاستخرجوا عينًا، فشربوا حتى رَويَ النَّاس، فاتّصلتْ بعد ذلك لخالد المنازل، فقال رافع: والله ما وردتُ هذا الماءَ قطّ إلا مرةً واحدة، وردته مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عَينا رافِعٍ أنّى اهْتَدَى ... فَوّزَ من قُراقرٍ إلى سُوَى!
خمْسًا إذا ما سارها الجَيشُ بكى ... ما سارها قَبْلك إنسيٌّ يُرَى
فلمَّا انتهى خالد إلى سُوَى، أغار على أهله - وهم بَهْراء - قبيل الصُّبح، وناس منهم يشربونَ خَمْرًا لهم في جَفْنة قد اجتمعوا عليها، ومغنِّيهم يقول:
ألا علّلانِي قبل جيش أبي بكرِ ... لعلّ منايانا قريب وما نَدْرِي
ألا علّلاني بالزُّجاج وكرِّرا ... عَليَّ كُمَيتَ اللونِ صافيةً تَجْرِي
ألا علّلاني من سُلافة قهوةٍ ... تسلِّي همومَ النفس من جيِّدِ الخمرِ
أظُنُّ خيولَ المسلمين وخالدًا ... ستطرُقكمْ قبل الصَّبَاح من البِشْرِ