[وانظر البداية والنهاية (٨/ ٣٥٨)]. وإذا كان عمر بن عبد العزيز حليمًا فقد كان معاوية أحلم. ولقد قبل سيدنا معاوية من الناس معارضتهم السلمية برحابة صدر وقبل منهم نصحهم وعمَّ الأمن البلاد والعباد. ونحن نذكر الأستاذ الفاضل بقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} ولا نتهمه بشيء -معاذ الله- ولكن مناقشتنا هذه تؤكد مقولتنا التي كررناها مرارًا في هذا البحث ألا وهي أن مجرد وجود الروايات المكذوبة في مثالب بني أمية في تاريخ كالطبري وغيره يكفي لرسوخ كثير من المفاهيم الخاطئة في أذهان الناس عن سيرة الخلفاء المسلمين. ولقد ذكرنا جوانب من سيرة الخليفة الصالح معاوية - رضي الله عنه - فلا داعي للتكرار ولكننا نذكر في هذا المقام مثالًا واحدًا فقط نتبين من خلاله تواضع معاوية - رضي الله عنه - وحرصه على اتباع النصوص الشرعية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي مجلز قال: دخل معاوية على عبد الله بن الزبير وابن عامر، وكان الشيخ أوزنهما، قال: فقال: منه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يتمثل له عباد الله قيامًا فليتبوأ مقعده من النار" [مسند أحمد (ح ١٦٨٣٠)]. وهذه درة من درر التاريخ الإسلامي سجلها لنا الإمام أحمد - رضي الله عنه -. فالخليفة الذي حكم شطر العالم يومها يكره قيام الناس له ويذكر في ذلك حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما من مثال من أمثلة العدل والزهد والحلم في سيرة عمر بن عبد العزيز إلَّا ويقابلها مثال على ذلك في سيرة معاوية - رضي الله عنه -. ولقد ذكرنا في قسم الصحيح قسطًا منها: كارتداءه - رضي الله عنه - ثوبًا مرقعًا، وركوبه بغلته مع غلام له واحد، وتجوله في السوق في دار الخلافة، وحواره مع المسور بن مخرمة، وغير ذلك كثير من علامات عدله وحكمه وصلاحه وجهاده. وكذلك ذكرنا في حينه أنه - رضي الله عنه - أوصى ولاته أن يحثوا الناس على الكتابة إليه كلما رأوا ظلامة أو حيفًا - رضي الله عنه - وأرضاه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. هذه هي الصورة المشرقة لأمير المؤمنين معاوية الذي كان أميرًا عشرين عامًا في عهد الخلفاء الراشدين ثم تسلّم الخلافة من الحسن صلحًا فكان أمير للمؤمنين عشرين عامًا إلا قليلًا. نعمت أرض الخلافة في عهده بالأمان والاستقرار وخمدت الفتن ونشطت الفتوحات مرة أخرى وشيدت المدن كالقيروان وغيرها كل ذلك وأرض الخلافة توسعت وترامت أطرافها =