قلنا: وهذا يعني أن سلف هذه الأمة من الصحابة الكرام كانوا على علم واطلاع واسعين بأصول السياسة الشرعية وقواعد الخلافة الراشدة وكان الراجح عندهم أن يكون الأمر شورى بين الأمة وتحت إشراف أهل الحل والعقد. والحق يقال: فإن الروايات التاريخية الصحيحة تؤكد أن الخليفة معاوية - رضي الله عنه - استشار أهل الحل والعقد واحترم رأيهم وأكرمهم ولم يعاقبهم على رأيهم وإن كان مخالفًا (صراحة) لرأيه هو - رضي الله عنه - في مسألة ولاية العهد، والرواية التالية تؤكد ذلك، والحوار السابق واللاحق دليل على أن ذلك التاريخ تاريخ عقيدة. عن محمد بن سيرين قال: لما أراد معاوية أن يستخلف يزيد بعث إلى عامل المدينة أن أوفد إليَّ من تشاء، قال: فوفد إليه عمرو بن حزم الأنماري، فاستأذن، فجاء حاجب معاوية يستأذن، فقال: هذا عمرو بن حزم قد جاء يستأذن، فقال: ما حاجتهم إلي؟ قال: يا أمير المؤمنين، جاء يطلب معروفك، فقال معاوية: إن كنت صادقًا فليكتب ما شاء، فأعطه ما شاء ولا أراه. قال: فخرج إليه الحاجبُ فقال: ما حاجتك؟ اكتب ما شئتَ فقال: سبحان الله، أجيء إلى باب أمير المؤمنين فأحجب عنه؟ أحِبُّ أن ألقاه فأكلمه. فقال معاوية للحاجب: عده يوم كذا وكذا إذا صلى الغداةَ، فليجئ قال: فلما صلَّى معاوية الغداة، أمر بسرير فجعل في إيوانٍ له، ثم أخرج الناس عنه، فلم يكن عنده أحد سوى كرسي وضع لعمرو، فجاء عمرو، فاستأذن، فأذن له فسلم عليه، ثم جلس على الكرسي، فقال له معاوية: حاجتك؟ قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لعمري لقد أصبح ابن معاوية واسط الحَسَب في قريش، غنيًّا عن الملك، غنيًّا إلَّا عن كل خير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله لم يسترع عبدًا رعيةً إلَّا وهو سائله عنها [كيف صنع فيها؟ ] ". وإني أذكرك الله يا معاوية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمن تستخلف عليها. قال: فأخذ معاوية ربوة وأخذ يتنفس في غداة قرّ، وجعل يمسح العرق عن وجهه ثلاثًا، ثم أفاق، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإنك امرؤ ناصح، قلت: برأيك بالغٌ ما بلغ، وإنه لم يبق إلَّا ابني وأبناؤهم، وابني أحق من أبنائهم، حاجتك؟ قال: ما لي حاجة. قال: ثم قال له أخوه: إنما جئنا من المدينة نضرب أكبادها من أجل كلماتٍ؟ قال: ما جئت إلّا لكلمات. قال: فأمر لهم بجوائزهم.