فتحرّز نيزَك في الكرز وليس إليه مسلَك إلا من وجه واحد، وذلك الوجه صَعْب لا تُطيقه الدّوابّ، فحصَرَه قتيبة شهرَين حتى قلّ ما في يد نيزَك من الطعام، وأصابهم الجُدَرِيّ وجُدِّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سُليمًا الناصح، فقال: انطلِق إلى نيزَك واحتَلْ لأنْ تأتيَني به بغيرِ أمان، فإنْ أعياك وأبَى فآمنه، واعلم أني إن عاينتُك وليس هو معك صلبتُك؛ فاعمل لنفسك. قال: فاكتب لي إلى عبد الرحمن لا يُخالفني؛ قال: نعم. فكتب له إلى عبد الرحمن فقَدم عليه، فقال له: ابعثْ رجالًا فليكونوا على فمِ الشِّعب. فإذا خرجت أنا ونيزَك فلْيَعطفوا من ورائنا فيَحُولوا بينَنا وبين الشِّعب. قال: فبعث عبدُ الرحمن خَيلًا فكانوا حيث أمَرَهم سُلَيم، ومضَى سُليم وقد حمل معه من الأطعمة التي تبقي أيامًا والأخْبِصة أوقارًا، حتى أتى نيزَك، فقال له نيزَك: خذلْتني يا سليم، قال: ما خذلْتُك، ولكنك عصيتني وأسأت بنفسك، خلعتَ وغدرتَ، قال: فما الرأي؟ قال: الرأيُ أن تأتيَه فقد أمحكته. وليس ببارح موضعَه هذا. قد اعتزم على أن يشتُوَ بمكانه؛ هلك أو سلم، قال: آتيه على غيرِ أمان! قال: ما أظنه يؤمنك: لما في قلبه عليك، فإنك قد ملأتَه غيظًا، ولكن أرى ألّا يعلم بك حتى تَضَع يدَك في يده، فإني أرجو إن فعلتَ ذاك أن يستحييَ ويعفوَ عنك، قال: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال: إنّ نفسي لتأبَى هذا، وهو إنْ رآني قتَلني، فقال له سليم: ما أتَيتُك إلا لأشيرَ عليك بهذا، ولو فعلتَ لرجوتُ أن تَسلَم وأن تعودَ حالُك عندَه إلى ما كانت؛ فأما إذْ أبيتَ فإني منصرف. قال: فنغدّيك إذًا، قال: إني لأظنكم في شُغل عن تَهيئة الطعام، ومعنا طعامٌ كثير.
قال: ودعا سليم بالغَداء فجاؤوا بطَعام كثير لا عَهدَ لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزَك، وقال سليم: يا أبا الهيّاج، أنا لك من الناصحين، أرى أصحابَك قد جُهِدوا، وإن طال بهم الحصار وأقمتَ على حالك لم آمَنْهم أن يستأمنوا بك، فانطَلق وائْتِ قُتيبة، قال: ما كنتُ لآمنَه على نفسي، ولا آتيه على غير أمان؛ فإنّ ظنّي به أنه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ الأمان أعذَر لي وأرجَى، قال: فقد آمنك أفتتّهمني! قال: لا، قال: فانطلق معي، قال له أصحابه: اقبل قولَ سليم، فلم يكن ليقولَ إلا حقًّا، فدعا بدوابّه وخرج مع سليم، فلما انتهَى إلى الدرجة التي يُهبط منها إلى قرار الأرض قال: يا سليم،