قال: فأخذ برأيه، فخلّف في سمرقند عثمان بن عبد الله بن الشِّخِّير في ثمانمئة: أربعمئة فارس وأربعمئة راجل، وأعطاهم سلاحًا. فشتم الناس عبدَ الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم، وقالوا: عرّضنا لخاقان والترك، ما أراد إلا هلاكنا!
فقال عبيد الله بن حبيب لحرب بن صبح: كم كانت لكم الساقة اليوم؟ قال: ألف وستمئة، قال: لقد عُرِّضنا للهلاك. قال: فأمر الجنيد بحمْل العيال.
قال: وخرج والناس معه، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع العبسيّ وزياد بن خَيران الطائيّ، فسرّح الجُنيد الأشهب بن عبيد الحنظليّ، ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له: كلما مضيت مرحلة فَسَرّحْ إليّ رجلًا يعلمني الخبر.
قال: وسار الجُنيد؛ فلما صار بقصْر الريح أخذ عطاء الدّبُوسيّ بلجام الجُنيد وكبحَه، فقرع رأسه هارون الشاشيّ مولى بني حازم بالرّمح حتى كسره على رأسه، فقال الجنيد لهارون: خلّ عن الدبوسيّ، وقال له: مالك يا دبوسيّ؟ فقال: انظر أضعف شيخ في عسكرك فسلّحه سلاحًا تامًّا، وقلّدْه سيفًا وجعبة وتِرسًا، وأعطه رمحًا، ثم سر بنا على قدر مشيه؛ فإنا لا نقدر على السوق والقتال وسرعة السير ونحن رجّالة. ففعل ذلك الجُنيد؛ فلم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا له بكَرْمِينيَة أوّل يوم من رمضان. فلما ارتحل الجُنيد من كرْمِينيَة قدم محمد بن الرُّنديّ في الأساورة آخر الليل؛ فلما كان في طرف مفازة كَرْمِينية رأى ضعف العدوّ؛ فرجع إلى الجنيد فأخبره؛ فنادى منادي الجنيد: ألا يخرج المكتَّبون إلى عدوّهم؟ فخرج الناس، ونشبت الحرب، فنادَى رجل: أيها الناس، صرتم حروريّة فاستقتلتم. وجاء عبد الله بن أبي عبد الله إلى الجنيد يضْحك، فقال له الجنيد: ما هذا بيوم ضحك! فقيل له: إنه ضَحِك تعجّبًا، فالحمد لله الذي لم يلقك هؤلاء إلا في جبال معطّشة؛ فهم على ظهر وأنت مخندق آخر النهار كالّين وأنت معك الزّاد، فقاتلوا قليلًا ثم رجعوا. وكان عبد الله بن أبي عبد الله قال للجُنيد وهم يقاتلون: ارتحل، فقال الجنيد: وهل من حيلة؟ قال: نعم، تمضي برايتك قَدْر ثلاث غِلاء، فإنّ خاقان ودّ أنك أقمت فينطوي عليك إذا شاء. فأمر بالرحيل وعبد الله بن أبي عبد الله على الساقة.