لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} -يعني: بني إسرائيل- {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}، يقول: قد حذِرنا، فأجمعنا أمرنا، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}. {قَالُوا}: يا موسى، {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}، كانوا يذبّحون أبناءنا، ويستحيُون نساءنا، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، البحرُ من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قال موسى:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، يقول: سيكفيني، {قَال عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ}. فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: مَنْ هذا الجبّار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقًا، في كل طريق سِبْط، وكأنّ الطرق إذا انفلقت بجدران، فقال كلّ سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرُهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا؛ ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلِقًا قال: ألا ترون البحر فرِق مني، وقد تفتّح لي حتي أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}، يقول: قرّبنا ثمَّ الآخرين؟ هم آل فرعون.
فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيلُه أن تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانة، فشمَّت الحُصن ريحَ الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرج ودخل آخرُهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم، وتفرد جبرئيل بفرعون بمَقْلةٍ من مَقل البحر، فجعل يُدسُّها في فيه، فقال حين أدركه الغرق:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فبعث الله إليه ميكائيل يعيّره، قال:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}. فقال جبرئيل: يا محمد، ما أبغضت أحدًا من الخلق ما أبغضتُ رجلين: أما أحدهما فمن الجنّ وهو إبليس حين أبي أن يسجد لآم، وأما الآخر فهو فرعون حين قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ولو رأيتَني يا محمد، وأنا آخذ مقْل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فأخرج فرعون في ستمئة ألف وعشرين ألفًا،