أتاه يومًا آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبِّح فلا يبقي جبل إلا سبّح معي، فقال: أبشِرْ يا بني! فإن هذا خيرٌ أعطاكه الله -وكان داود راعيًا، وكان أبوه خلّفه يأتي إلي أبيه وإلي إخوته بالطعام- فأتي النبي - عليه السلام - بقرن فيه دُهن وتَنّور من حديد، فبعث به إلي طالوت، قال: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن علي رأسه، فيغلي حتى يدّهن منه ولا يسيل علي وجهه، ويكون علي رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه. فدعا طالوت بني إسرائيل، فجرَّبهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فَرَغوا؛ قال طالوت لأبي داود: هَلْ بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مرَّ في الطريق بثلاثة أحجار فكلّمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قال: فأخذهنّ وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قال: مَنْ قتل جالوت زوّجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن علي رأسه، فغلَي حتى ادّهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلًا مسقامًا مصفارًّا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبِسه داود تضايق التنّور عليه حتى تنقّض، ثم مشي إلي جالوت، وكان جالوت من أجْسَم الناس وأشدَّهم، فلمّا نظر إلي داود قُذِفَ في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتي! ارجع فإني أرحمك أن أقتلَك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك. فأخرج الحجارة فوضعها في القَذَّافة، كلّما رفع منها حجرًا سمّاه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذّافة فعادت الأحجار حجرًا واحدًا، ثم أرسلَه فصكَّ به بين عيني جالوت فَنَقبَتْ رأسه، ثم قتلته؛ فلم تزل تقتل كلّ إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجري خاتَمه في ملكه، فمال الناس إلي داود، وأحبُّوه.
فلما رأي ذلك طالوت وجَد في نفسه وحسده، وأراد قتلَه، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجَّي له زِقَّ خمر في مضجعه، فدخل طالوت إلي منام داود وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقدت قطرة من خمرٍ في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصُر بالسهام فعرفها