فسار زرح ومن معه حتى حلّوا علي ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلَّة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومَحوْا مروجَها؛ حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا علي مرحلتين من إيلِياء، ففرّق زرح عساكره منها إلي إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرضُ جبالها وسهولها، وامتلأت قلوبُ أهل الشام منهم رُعبًا، وعاينوا هلَكتهم.
فسمع بهم أسا الملك؛ فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم. فسار القوم الذين بعثهم أسَا حتى نظروا إليهم من رأس تلّ، ثم رجعوا إلي أسا فأخبروه أنه لم تر عُيونُ بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلَهم ومثلَ أفيالهم وخيولهم وفرسانهم؛ وما ظننَّا أنّ في الناس مثلَهم كثرة وعدة، فُلَّت من إحصائهم عقولُنا، وفُلَّت من قتالهم حيلتنا، وانقطع فيما بيننا وبينهم رجاؤنا.
فسمع بذلك أهلُ القرية فشقُّوا ثيابهم، وذرُّوا التراب علي رؤوسهم، وعَجّوا بالعويل في أزقّتهم وأسواقهم، وجعل بعضُهم يودّع بعضًا. ثم ساروا حتى أتوا الملكَ فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلي هؤلاء القوم فرافعون إليهم أيديَنا، لعلهم أن يرحمونا فيقرّونا في بلادنا. قال لهم أسا الملك: معاذ الله أن نُلقيَ بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نُخلِّيَ بيت الله وكتابه للفجرة! قالوا: فاحتَلْ لنا حيلة، واطلب إلي صديقك وربك الذي كنت تعدُنا بنصره، وتدعونا إلي الإيمان به، فإن هو كشَف عنّا هذا البلاء؛ وإلّا وضعنا أيديَنا في أيدي عدونا لعلنا نتخلّص بذلك من القتل.
قال لهم أسا: إنّ ربي لا يطاق إلا بالتضرُّع والتبتل والاستكانة. قالوا: فابرز له لعلّه أن يجيبك فيرحم ضعفنا، فإن الصديق لا يسلِم صديقه علي مثل هذا. فدخل أسا المصَلَّي، ووضع تاجه من رأسه، وخلّي ثيابه، ولبس المُسوح وافترش الرماد، ثم مدّ يده يدعو ربه بقلب حزين، وتضرّع كثير، ودموع سِجال، وهو يقول: اللهمّ ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ أنت المستخفي من خلْقك حيث شئت، لا يدرَك قرارك، ولا يطاق كنْهُ عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام؛ أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك، فأطفأتَ بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به