فلم يكن قرية غشيَها العذابُ ثم أمسك عنها إلّا قوم يونس خاصّة، فلما رأى ذلك يونس، لكنّه ذهب عاتبًا على ربه، وانطلق مغاضبًا، وظنّ أنْ لن يُقْدَر عليه، حتى ركب سفينة، فأصاب أهلها عاصف من الريح. فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم. وقال يونس - وقد عرف أنه هو صاحب الذنب: هذه بخطيئتي، فألقُوني في البحر. وإنّهم أبوْا عليه حتى أفاضوا بسهامهم، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}، فقال لهم: قد أخبرتكم: أنّ هذا الأمرَ بذنبي. وإنّهم أبوْا عليه أن يُلقوه في البحر، حتى أفاضوا بسهامهم الثانية؛ {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}. فقال لهم: قد أخبرتكم: أنّ هذا الأمر بذنبي، وإنّهم أبوْا عليه أن يُلقوه في البحر حتى أفاضوا بسهامهم الثالثة، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}. فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} - وعرف الخطيئة - {أَنْ لَا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه فقال: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}؛ وذلك: أنّ العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثَر؛ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}. وألقي على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يَقْطين - وهي فيما ذكر - شجرة القرع يتقطّر عليه من اللبن؛ حتى رجعت إليه قُوَّته. ثم رجع ذاتَ يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبِست، فحزِن وبكى عليها، فعوتب فقيل له: أحزِنْتَ على شجرة، وبكيت عليها ولم تحزن على مئة ألف أو زيادة أردت هلاكَهم جميعًا!
ثم إنّ الله اجتباه من الضّلالة، فجعله من الصالحين، ثم أمر أن يأتيَ قَومَه ويُخبِرَهم: أن الله قد تاب عليهم. فعمَد إليهم، حتى لقيَ راعيًا، فسأله عن قوم يونس وعن حالهم، وكيف هم؟ فأخبره أنهم بخير، وأنهمْ على رجاء أن يرجع إليهم رسُولُهم، فقال له: فأخبِرْهم أنّي قد لقيت يونس. فقال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمّى له عنزًا من غنمه، فقال: هذه تشهد لك أنّك قد لقيت يونس. قال: وماذا؟ قال وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك قد لقيت يونس. قال: وماذا؟ قال: وهذه الشجرة تشهد لك أنّك قد لقيت يونس. وإنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم: أنه لقيَ يونس فكذّبوه وهَمُّوا به شرًّا، فقال: لا تعجلوا عليّ حتى أصبح، فلما أصبح غَدَا بهم إلى البقعة التي لقيَ فيها يونس فاستنطقها،