قال له ذلك أيقن بالشرّ، وخافه على نفسه ومُلْكه، وأجمع رأيه على أن يخلّده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنّك إن تركته طليقًا يكلّم الناس؛ أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مُرْ له بعذاب في السجن يشغَله عن كلام الناس. فأمر فبُطح في السجن على وجهه، ثم أوْتد في يديه ورجليه أربعةَ أوتاد من حديد، في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوُضع على ظهره. حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلّوه، ثم أربعة عشر رجلًا فلم يقلّوه، ثم ثمانية عشر رجلًا فأقلُّوه؛ فظلّ يومَه ذلك مُوتَدًا تحت الحجر.
فلما أدركه الليل أرسلَ الله إليه ملَكًا -وذلك أوّلَ ما أيِّدَ بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي- فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشَّره وعزَاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له: الحقْ بعدوّك فجاهده في الله حقَّ جهاده؛ فإنّ الله يقول لك: أبشِرْ واصبر؛ فإنّي أبتليك بعدوِّي هذا سبع سنين، يعذّبك ويقتلك فيهن أربع مِرار، في كلّ ذلك أردّ إليك روحك؛ فإذا كانت القتْلة الرابعة تقبّلت روحك وأوفيتك أجرك. فلم يشعر الآخرون إلّا وقد وقف جرجيس على رؤوسهم يدعوهم إلى الله. فقال له الملك: أجرجيس! قال: نعم، قال: مَنْ أخرجك من السجن؟ قال: أخرجَني الذي سلطانُه فوق سلطانك. فلما قال له ذلك ملئ غيظًا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلّف منها شيئًا، فلما رآها جرجيس تُصنَّف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعًا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلَى صوته، وهم يسمعون. فلما فرغ من عتابة نفسَه مدُّوه بين خَشبَتين، ووضعوا عليه سيفًا على مفرِق رأسه، فوَشَرُوه حتى سقط بين رجليه، وصار جزْلتين، ثم عمدوا إلى جزْلتيه، فقطعوهما قِطَعًا. وله سبعة أسْد ضارية في جُبّ، وكانت صنفًا من أصناف عذابه، ثم رموْا بجسده إليها، فلما هَوَى نحوها أمر الله الأسْد فخضعت برؤوسها وأعناقها، وقامت على براثِنها، لا تألوا أن تقيَه الأذى، فظلَّ يومه ذلك ميّتًا، فكانت أول ميتة ذاقها. فلما أدركه اللَّيل جمع الله له جسده الذي قطَّعوه بعضه على بعض، حتى سوّاه. ثم ردّ فيه روحه وأرسل ملَكًا فأخرجه من قَعْر الجبّ، وأطعمه وسقاه، وبشّره وعزّاه. فلما أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبّيك! قال: أعْلَمُ: أن القدرة التي خُلِق آدم بها من تراب هي التي أخرجتْك من قعر الجُبّ، فالحق