سمعوا صوتًا من السماء يقول: يا بحر! إنّ الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيّب، فإنّي أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبْرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذرّوه قيام لم يبرحوا. ثم نظروا إلى الرّماد يثور كما كان، حتى خرج منه جرجيس مغبرًّا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجَع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته. فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقولَ الناس: إنك قهرتني وغلبتني؛ لاتّبعتُك وآمنت بك؛ ولكن اسجد لأفلّون سجدة واحدة، أو اذْبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرّك.
فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يُهلِك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم؛ إذا شئت فأدخلْني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقَبّل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألّا تظلّ هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلّا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصبُ العذاب، فيرى الناس كرامتَك عليّ. فأخلى له بيته، وأخرج منه مَنْ كان فيه. فظلّ فيه جرجيس؛ حتى إذا أدركه الليل، قام يصلّي، ويقرأ الزّبور -وكان أحسنَ الناس صوتًا- فلمّا سمعتْه امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلْفه تبكي معه، فدعاها جرجيس إلى الإيمان فآمنت، وأمرها فكتمت إيمانها. فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجدَ لها، وقيل للعجوز التي كان سجن في بيتها: هل علصتِ أنّ جرجيس قد فتن بعدك، وأصغى إلى الدنيا، وأطمعه الملك في ملكه، وقد خرج به إلى بيت أصنامه ليسجد لها! فخرجت العجوز في أعراضهم، تحمل ابنَها على عاتقها، وتوبّخ جرجيس، والناس مشتغلون عنها.
فلما دخل جرجيس بيتَ الأصنام، ودخل الناس معه، نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقربُ الناس منه مقامًا، فدعا ابن العجوز باسمه، فنطق بإجابته، وما تكلّم قبل ذلك قط، ثم اقتحم عن عاتق أمّه يمشي على رجليه سويّتين، وما وطئ الأرض قبل ذلك قطّ بقدميه، فلما وقف بين يدي جرجيس