حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذُو نُواس فجمع إليه حِمْير ومَنْ أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرّق، لانقطاع المدّة وحلول البلاء والنِّقْمة، فلم يكن له حرب غير أنَّه ناوش ذو نُواس شيئًا من قتال، ثم انهزموا، ودخلها أرياط بجموعه، فلما رأى ذو نُواس ما رأى ممّا نزل به وبقومه وجّه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضَحْضَاح البحر، حتى أفضى به إلى غَمْرة، فأقحمه فيه، فكان آخرَ العهد به. ووطئ أرياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلثَ رجالها، وأخرب ثلثَ بلادها، وبعث إلى النجاشيّ بثلث سباياها ثم أقام بها، قد ضبطها وأذلّها، فقال قائل من أهل اليمن، وهو يذكر ما ساق إليهم دَوْس ذو ثعلبان من أمر الحبشة؛ فقال: "لا كدَوْس ولا كأعلاقِ رَحْلِهْ" يعني: ما ساق إليهم من الحبشة، فهي مَثَل باليمن إلى اليوم (١). (٢: ١٢٤/ ١٢٥).
٨٢٧ / أ- وقال ذو جَدن الحميريّ وهو يذكر حِمْير، وما دخل عليها من الذُّلّ بعد العزّ الذي كانوا فيه، وما هُدِم من حصون اليمن، وكان أرياط قد أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سِلْحين، وبينون، وغُمْدان حصونًا لم يكن في الناس مثلها، فقال:
هَوْنَكِ ليسَ يَرُدُّ الدَّمْعُ ما فاتا ... لا تَهْلِكي أسَفًا في ذِكْرِ مَنْ مَاتا
أبَعْدَ بَينُونَ لا عَيْنٌ وَلَا أثَرٌ ... وبَعْدَ سِلْحينَ يبْني النَّاسُ أَبْياتًا!
وقال ذو جَدَنٍ الحميريّ في ذلك:
دَعِيني لا أبا لكِ لَنْ تُطِيقي ... لحاكِ اللهُ قَدْ أنْزَفْتِ رِيقي
لدَى عَزْفِ الْقِيانِ إذِ انْتَشَينا ... وإذ نُسْقَى منَ الخمْرِ الرّحيقِ
وَشُرْبُ الْخمْرِ لَيسَ عَلَيَّ عَارًا ... إذَا لم يشْكُنيِ فيها رفيقي
فإنَّ الموْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ ... ولَوْ شَرِبَ الشِّفاءَ مَعَ النَّشُوق
وَلا متَرَهِّبٌ في اسْطُوانٍ ... يناطِحُ جُدْرُه بَيضَ الأَنُوق
وغُمْدَان الَّذِي حُدِّثتْ عَنْهُ ... بنَوْهُ مُمْسِكًا في رَأْسِ نيقِ
بِمَنْهَمَةٍ وأسفَله جُروبٌ ... وحُرُّ الموْحَلِ اللَّثِقِ الزَّليقِ
مَصَابيحُ السَّليطِ تَلُوحُ فيه ... إذَا يُمْسِي كتَوْماضِ البُرُوقِ
(١) وانظر البداية والنهاية (١/ ٩٩).