إلى كسرى كتابًا، يعلمه فيه قدرَه وشرفه ونزوعه إليه فيما نزع إليه فيه. فقال: لا تعجَل، فإنّ لي عليه في كلّ سنة وفادة، وهذا وقتها، فأقام قِبَله حتى وفَد عليه معه، فدخل عمرو بن هند على كِسرى، فذكر له شرفَ ذي يزن وحاله، واستأذن له، فدخل فأوسع له عمرو، فلما رأى ذلك كسرى علم أن عمرًا لم يصنع به ذلك بين يديه إلا لشرفه، فأقبل عليه فألطفه، وأحسن مسألته، وقال له: ما الأمر الذي نزع بك؟ قال: أيها الملك، إن السُّودان قد غلبونا على بلادنا، وركبوا منّا أمورًا شنيعة، أجلّ الملك عن ذكرها، فلو أنّ الملِك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره، لكان حقيقًا بذلك لفضله وكرمه وتقدّمه لسائر الملوك. فكيف وقد نزعنا إليه مؤمّلين له، راجين أن يقصِم الله عدوّنا وينصرنا عليهم، وينتقم لنا به منهم! فإن رأى الملك أن يصدّق ظنّنا، ويحقّق رجاءنا، ويوجّهَ معي جيشًا ينفون هذا العدوّ عن بلادنا فيزدادها إلى ملكه -فإنّها من أخصب البلدان وأكثرها خيرًا، وليست كما يلي الملِك من بلاد العرب- فعل.
قال: قد علمت: أنّ بلادكم كما وصفْت، فأيّ السّودان غلبوا عليها؟ الحبشة أم السّند؟ قال: بل الحبشة، قال أنوشِرْوان: إنّي لأحبّ أن أصدّق ظنَّك، وأن تنصرف بحاجتك؛ ولكنّ المسلكَ للجيش إلى بلادكَ صعب، وأكره أن أغرّره بجندي، ولي فيما سألتَ نظَر، وأنت على ما تحبّ.
وأمر بإنزاله وإكرامه؛ فلم يزل مقيمًا عنده حتى هلك. وقد كان أبو مرّة قال قصيدة بالحِمْيريّة يمتدح فيها كسرى، فلما ترجِمت له، أعجب بها.
وولدت ريحانة ابنة ذي جَدَن لأبرهة الأشرم غلامًا، فسمّاه مسروقًا، ونشأ معد يكرب بن ذي يزن مع أمّه ريحانة في حِجْر أبرهة فسبّه ابن لأبرهة، فقال له: لعنك الله، ولعن أباك! وكان معد يكرب لا يحسب إلّا أنّ الأشرم أبوه، فأتى أمه فقال لها: مَنْ أبي؟ قالت: الأشرم، قال: لا والله، ما هو أبي، ولو كان أبي ما سبَّني فلان، فأخبرتْه أنّ أباه أبو مرّة الفيّاض، واقتصّت عليه خبره، فوقع ذلك في نفس الغلام، ولبِث بعد ذلك لبثًا.
ثم إنّ الأشرم مات، ومات ابنه يكسوم، فخرج ابن ذي يزن قاصدًا إلى ملِك الرّوم، وتجنّب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الرُّوم ما يحبّ، ووجده يحامي عن الحَبشة لموافقتهم إيّاه على الدّين، فانكفأ راجعًا