ففعل ذلك مسروق، ثم أقام كلّ واحد منهما في عسكره، حتى إذا مضى من الأجل عشرة أيام، خرج ابن وهْرز يسير على فرس له، حتى دنا من عسكرهم، وحمله فرسُه، فتوسط به عسكرهم، فقتلوه - ووهْرِز لا يشعر به - فلما بلغه قتلُ ابنه أرسل إلى مسروق: قد كان بيني وبينكم ما قد علمتم، فَلِمَ قتلتم ابني؟ فأرسل إليه مسروق: إنّ ابنك حَمَل علينا، وتوشط عسكرنا، فثار إليه سفهاء من سفهائنا، فقتلوه، وقد كنت لقتله كارهًا. قال وهْرز للرّسول: قل له: إنه لم يكن ابني، إنما كان ابنَ زانية، ولو كان ابني لصبر ولم يغدر حتى ينقضي الأجل الذي بيننا. ثم أمر فرمِيَ به في الصعيد حيث ينظَر إلى جُثمانه، وحلف الّا يشرب خمرًا، ولا يدهن رأسه حتى ينقضي الأجل بينه وبينهم.
فلما انقضى الأجل إلَّا يومًا واحدًا، أمر بالسّفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وأمر بما كان معهم من فَضل كسوة فأحرِق، ولم يدع منه إلَّا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكلّ زاد معهم. فقال لأصحابه: كلوا هذا الزاد، فأكلوه، فلما انتهوْا أمر بفضله فألْقيَ في البحر، ثم قام فيهم خطيبًا، فقال: أمَّا ما حرّقتُ من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم أبدًا، وأما ما حرّقت من ثيابكم، فإنَّه كان يغيظني إن ظفرتْ بكم الحبش أن يصير ذلك إليهم، وأمّا ما ألقيت من زادكم في البحر، فإنّي كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يومًا واحدًا، فإن كنتم قومًا تقاتلون معي، وتصبرون؟ أعلمتموني ذلك. وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري؛ فإني لم أكن لأمكّنَهم من نفسي أبدًا. فانظروا ما تكون حالكم، إذا كنت رئيسكم وفعلت هذا بنفسي! فقالوا: لا بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفَر.
فلما كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجلُ عبَّأ أصحابَه، وجعل البحر خلْفه، وأقبل عليهم يحضّهم على الصبر، ويعلمهم أنهم منه بين خَلّتين، إمَّا ظفروا بعدوّهم، وإمّا ماتوا كرامًا، وأمرهم أن تكون قستهم موتَرة، وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشْقًا بالبَنْجكان - ولم يكن أهل اليمن رأوا النشّاب قبل ذلك - وأقبل مسروق في جَمْع لا يرى طرفاه على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة، لا تزى أنّ دونَ الظفر شيئًا. وكان وهْرِز قد كل بصره فقال: أروني عظيمَهم، فقالوا: هو صاحب الفيل؛ ثم لم يلبث مسروق أن نزل