مُقَاتِلتهم وسبيهم ذرارِيّهم واسْتِباحَتِهم أموالهم وانْتِهاكِهم ما بحضْرتهم؛ بكى إلى الله وتضرَّع إليه وسأله أن يُنْقِذه وأهلَ ممْلكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلًا ضخْمَ الجثَّة رفيعَ المجلس، عليه بِزّة، قائمًا في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرَّجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إني قدْ أسلمته في يدك، فلم يقصُصْ رؤْياه تلكَ في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه: أن الرَّجل الذي رآه في حلمه جالس في مجْلس رفيع، وأنَّ الرَّجل الدَّاخلَ عليهما أتاهُ وبيَدِه سلْسِلة طويلة، فألقاها في عُنُق صاحب المجلس وأمكنه منْه، وقال له: هأَنذا قد دفعتُ إليك كِسْرى بِرُمَّته، فاغْزُه فإنَّ الظفر لك، وإنَّك مدالٌ عليه ونائلٌ أمْنيتك في غَزَاتك. فلمَّا تتابعت عليه هذه الأحلام، قصَّها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم.
فأخبروه: أنَّه مدالٌ عليه، وأشاروا عليه أن يغزوَه، فاستعدّ هِرَقل واستخلف ابنًا له على مدينة قسطنطينِيَّة، وأخذ غير الطريق الذي فيه شَهْرَبراز، وسار حتَّى أوغل في بلاد أرمينيَة، ونزل نَصيبين بعد سنة، وكان شاهين - فاذوسبانُ المغرب - بباب كِسْرى حين ورد هِرَقْل نَصيبين لموْجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إيَّاه عن ذلك الثَّغْر، وكان شهربراز مُرابطًا للموضع الذي كان فيه لتقدّم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسْرَى خبرُ تساقط هِرَقْل في جنوده إلى نَصيبين، فوجَّه لمحاربة هرقْل رجلًا من قُوَّاده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنِينَوَى من مدينة الموْصِل على شاطئ دجلة، ويمنع الرومِ أن يجوزوها - وكان كِسْرَى حين بَلَغه خبرُ هِرَقْل مقيمًا بدَسْكَرة الملك - فنفذ راهزار لأمرْ كسرى، وعسْكر حيث أمره، فقطع هِرقْلِ دِجْلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جندٌ فارس، فأذْكى راهزار العيونْ عليه، فانْصَرَفُوا إليه وأخبروه: أنَّه في سبعين ألف مقاتل، وأيقنَ راهزار: أنَّه ومَنْ معه من الجنود عاجُزون عن مناهضة سبعين ألف مُقَاتل، فكتب إلى كِسْرَى غيرَ مرَّة دَهْم هرقْلٍ إيَّاه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسنِ عدّتهم، كلُّ ذلك يجيبه كسرى في كتابه: أنَّه إن عجز عن أولئك الرُّوم فلنْ يعجز عن اسْتِقْتَالهم وبذْل دمائهم في طاعته، فلمَّا تتابعت على راهزار جواباتُ كُتُبِه إلى كِسْرى بذلك؛ عبَّى جندَه وناهض الرُّوم، فقتلت الرُّوم راهزار وستَّة آلاف رجُل،