فيكم فلا نصنعه؛ ولم آتِكم؛ ولكن دعوتموني اليوم؛ علمت أن أمركم مضمحلّ، وأنّكم مغلوبون؛ وأن مُلكًا لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقالت السّفلة: صدَق والله العربيّ! وقالت الدّهاقين: والله لقد رَمى بكلام لا يزال عبيدُنا ينزعون إليه. قاتل الله أوّلينا، ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمّة! فمازحه رستُم ليمحُوَ ما صُنع، وقال له: يا عربيّ! إنّ الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عمَّا ينبغي من ذلك؛ فالأمر علَى ما تحبّ من الوفاء وقبول الحقّ؛ ما هذه المغازل التي معك؟ قال: ما ضرّ الجمرة ألّا تكون طويلة! ثم راماهم. وقال: ما بال سيفك رثًّا! قال: رثُّ الكسوةِ، حديد المضربة، ثم عاطاه سيفه، ثم قال له رستم: تكلّم أم أتكلَّم؟ فقال المغيرة: أنت الَّذي بعثت إلينا، فتكلَّم، فأقام الترجمان بينهما، وتكلَّم رستم، فحمِد قومه، وعظَّم أمرهم وطوّله. وقال: لم نزل متمكِّنين في البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافًا في الأمم؛ فليس لأحد من الملوك مثل عزّنا وشرفنا وسلطاننا، نُنصَر على النَّاس ولا يحصرون علينا إلّا اليوم واليومين، أو الشَّهر والشهرين؛ للذنوب؛ فإذا انتقم الله فرضي ردّ إلينا عزّنا، وجمعْنا لعدونا شرّ يوم هو آتٍ عليهم.
ثم إنه لم يكن في النَّاس أمة أصغر عندنا أمرًا منكم؛ كنتم أهلَ قَشف، ومعيشة سيّئة، لا نراكم شيئًا ولا نعدُّكم، وكنتم إذا قحطت أرضكم، وأصابتكم السنَّة استغثتم بناحية أرضنا، فنأمر لكم بالشيء من التَّمْر والشعير ثم نردّكم، وقد علمت: أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلّا ما أصابكم من الجهد في بلادكم، فأنا آمرُ لأميركم بكُسوة، وبغْل، وألف درهم، وامرُ لكلّ رجل منكم بوقر تمْرٍ، وبثوبين، وتنصرفون عنَّا، فإني لست أشتهي أن أقتُلَكم، ولا آسركم.
فتكلّم المغيرة بن شُعبة، فحمد الله وأثنَى عليه، وقال: إنّ الله خالق كلّ شيء ورازقه؛ فمن صنع شيئًا فإنما هو الذي يصنعه هو له. وأمَّا الذي ذكرت به نفسَك وأهلَ بلادك؛ من الظّهورِ على الأعداء، والتمكّن في البلاد، وعُظْم السلطان في الدنيا؛ فنحن نعرفه، ولسنا نُنكره؛ فالله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم؛ وأمَّا الذي ذكرت فينا من سُوء الحال، وضيق المعيشة، واختلاف