إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيُّها الناس! عضِضتم بهَنِ آبائكم! ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أيُّها الناس! أخلِصوا إليَّ مذحِجًا. فأقبلت إليه مذحِج، فقال: عضِضتم بصمّ الجندل! ما أرضَيتُم ربّكم، ولا نصحتُم له في عدوّكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفِتيان الصباح، وفرسان الطِّراد، وحتوف الأقران، ومذحِج الطّعان؛ الذين لم يكونوا يُسبَقون بثأرهم، ولا تُطلّ دماؤهم، ولا يُعرفون في موطن بخسفٍ، وأنتم حَدُّ أهل مصركم، وأعدّ حيٍّ في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم؛ فاتقوا مأثور الأحاديث في غد، واصدقوا عدوَّكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفسُ مالك بيده ما من هؤلاء -وأشار بيَده إلى أهل الشام- رجلٌ على مثال جناح بعوضة من محمد - صلى الله عليه وسلم -! أنتم ما أحسنتم القِراع، اجْلُوا سواد وجهي يرجعْ في وجْهي دمي. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإنّ الله عزّ وجلّ لو قد فَضّه تبعه مَن بجانبيه كما يتبع مؤخَّر السيل مقدّمه.
قالوا: خذ بنا حيث أحببت، وصمد نحو عُظْمهم فيما يلي الميمنة، فأخذ يزحف إليهم، ويردّهم، ويستقبله شباب من هَمْدان -وكانوا ثمانمئة مقاتل يومئذ- وقد انهزموا آخرَ الناس، وكانوا قد صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومئة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسًا، كلّما قُتل منهم رجل أخذ الراية آخرُ، فكان الأوّل كُريب بن شُرَيح، ثم شُرحبيل بن شريح، ثم مرثَد بن شُريح، ثم هُبيرة بن شريح، ثم يريم بن شُريَح، ثم سُمَير بن شريح، فقتِل هؤلاء الإخوة الستّة جميعًا، ثم أخذ الراية سُفيان بن زيد، ثم عبد بن زيد، ثم كُرَيب بن زيد، فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعًا، ثم أخذ الراية عميرة بن بشير، ثم الحارث بن بشير، فقتِلا، ثم أخذ الراية وهب بن كُرَيب أخو القَلوص، فأراد أن يستقبل، فقال له رجل من قومه: انصرف بهذه الراية -رحمك الله- فقد قُتِل أشرافُ قومك حولَها، فلا تقتل نفسك، ولا من بقيَ من قومك! فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا عِدّتَنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم، فلا ننصرف حتى نقتَل أو نظفر، فمرُّوا بالأشتر وهم يقولون هذا القول، فقال لهم الأشتر: إليّ أنا أحالفكم، وأعاقدكم على ألا نرجع أبدًا حتى نَظفرَ أو نَهلِك، فأتوه فوقفوا معه، ففي هذا القول قال كعب بن جُعَيل التغلبيّ: