ألفين، وكانا معه - فحبسهما فأرسلتُ إليهما: إن شئتما أتيتُكما، فبعَثَا إليّ: لا تَقرَبْنا، إنّه زياد! وما عسى أن يَصنَع بنا، ولم نُذنِب ذنبًا! فمكثا أيّامًا، ثم كُلّم زياد فيهما، فقالوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابيّ من أهل البادية؛ فخلّى عنهما؛ فقالا لي: أخْبرنا بجميع ما أمَرَك أبوك من مِيرةٍ أو كسوة؛ فخبّرتهما به أجمع، فاشترياه وانطلقتُ حتى لحقت بغالب، وحملتُ ذلك معي أجمع، فأتيتُه وقد بلغه خبري، فسألني: كيف صنعتَ؟ فأخبرتُه بما كان؛ قال: وإنك لتُحسن مِثلَ هذا! ومَسَح رأسي، ولم يكن يومئذ يقول الشّعر، وإنما قال الشعر بعد ذلك، فكانت في نفس زياد عليه.
ثمّ وفَد الأحنفُ بنُ قيس، وجاريةُ بنُ قدامة من بني ربيعة بن كعب بن سعد، والجوْن بن قَتادة العَبْشَميّ، والحُتات بن يزيد أبو منازل أحد بني حُويّ بن سُفيان بن مجاشع إلى معاوية بن أبي سُفْيان، فأعطى كلّ رجل منهم مئة ألف، وأعطى الحُتات سبعين ألفًا، فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضًا، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحُتات أخذ سبعين ألفًا، فرجع إلى معاوية، فقال: ما ردّك يا أبا منازل؟ قال: فضَحْتَني في بني تميم، أما حسبي بصحيح! أوَلَسْتُ ذا سِنّ! أوَلَسْتُ مطاعًا في عشيرتي! فقال معاوية: بلى! قال: فما بالك خَسَسْت بي دون القوم! فقال: إني اشتريت من القوم دينَهم ووكَلْتُك إلى ديِنك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانيًّا - فقال: وأنا فاشترِ منِّي دِيني، فأمر له بتمامِ جائزةِ القوم، وطعن في جائزته، فحبسها معاوية، فقال الفرزدق في ذلك:
أَبوك وعمي يا معاوِيَ أَوْرثا ... تراثًا فيخْتارُ التُّراثَ أقاربُهْ
فما بالُ ميراث الحُتات أَخذتَه ... وميراثُ حرْبٍ جامدٌ لك ذائبُهْ!
فلو كانَ هذا الأَمر في جاهليَّةٍ ... علِمْتَ من المرءُ القليلُ حَلائبهْ
ولو كان في دينٍ سوى ذا شنِئتُمُ ... لنا حقّنا أو غَصَّ بالماء شاربُهْ
ولو كان إذ كنَّا وفي الكفّ بسطةٌ ... لَصمّم عَضْبٌ فيك ماضٍ مَضارِبُهْ
- وأنشد محمد بن عليّ "وفي الكفّ مبسط" -
وقد رُمْتَ شيئًا يا معاوِيَ دونَهُ ... خياطِف عِلْودٍّ صعاب مراتبُهْ
وما كنتُ أُعطى النّصَف من غير قدرةٍ ... سواكَ، ولو مالتْ عليَّ كتائبه
ألَستُ أعزَّ الناس قومًا وأسرةً ... وأمنعَهُمْ جارًا إذا ضِيمَ جانبُهْ