وعقد لشبَث بن رِبْعيّ لواءً، فأخرجه، وأقامَ الناسُ مع ابن عقيل يكبّرون ويثوّبون حتى المساء، وأمرُهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال: أشرِفوا على الناسِ فمنُّوا أهل الطاعة الزّيادةَ والكرامة، وخوّفوا أهلَ المعصية الحرمان والعقوبةَ، وأعلموهم فُصولَ (١) الجنود من الشأم إليهم.
قال أبو مخنف: حدّثني سُليمان بن أبي راشد، عن عبد الله بن خازم الكثيريّ من الأزْد، من بني كثير، قال: أشرف علينا الأشرافُ، فتكلم كثير ابن شهاب أوّل الناس حتى كادت الشمس أن تَجِب، فقال: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيدُ قد أقبلتْ، وقد أعطى الله الأميرُ عهدًا: لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيَتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّقَ مُقاتِلِيكم في مَغازِي أهلِ الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى لهُ فيكم بقيَّة من أهل المعصية إلا أذاقها وبالَ ما جرَّت أيديها، وتكلَّمَ الأشراف بنحو من كلامِ هذا؛ فلما سمعَ مقالتَهم الناسُ أخذوا يتفرّقون وأخذوا ينصرفون.
قال أبو مخنف: فحدّثني المجالد بن سعيد؛ أن المرأة كانت تأتي ابنَها أو أخاها فتقول: انصرِفْ؛ الناسُ يكفُونك، ويجيء الرّجلُ إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدًا يأتيكَ أهلُ الشام، فما تصنع بالحرب والشرّ! انصرف. فيذهب به؛ فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون حتى أمسى ابن عقيل وما معهُ ثلاثون نفسًا في المسجد، حتى صُلِّيَتِ المغرب، فما صلّى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسًا. فلما رأى أنه قد أمسى وليسَ معهُ إلا أولئكَ النَّفر خرج متوجّهًا نحو أبواب كنْدة، وبلغ الأبواب ومعهُ منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسانٌ، والتفتَ فإذا هو لا يحسّ أحدًا يدلّه على الطريق، ولا يدُلّه على منزل ولا يواسيهِ بنفسهِ إنْ عرض له عدوٌّ، فمضى على وجههِ يتلدّد في أزقَّةِ الكُوفة لا يَدْري أينَ يَذهب! حتى خرج إلى دُورِ بني جَبَلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقالُ لها: طَوْعة أمّ ولد -كانت للأشعث بن قيس، فأعتقها فتزوّجها أسيد الحضرميّ فولدتْ له بلالًا، وكان بلالٌ قد خرج من الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلَّم عليها ابن عَقيل، فردّت عليه، فقال لها: يا أمة الله، اسقيني ماءً، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت