وأثنَى عليه ثمّ قال: إنه قد نزل من الأمر ما قد تروْن، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكرت، وأدبر معروفُها واستمرّت جدًّا، فلم يَبَقَ منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمَرعَى الوَبيل، ألا ترون أنّ الحق لا يُعْمَل به، وأنّ الباطل لا يتُناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله مُحقًّا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا بَرَمًا.
قال: فقام زهير بن القَيْن البَجَليّ، فقال لأصحابه: تكلَّمون أم أتكلم؟ قالوا: لا؛ بل تكلم، فَحمِد الله فأثنَى عليه ثم قال: قد سمعْنا -هَداك الله- يا بنَ رسول الله مقالتَك، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلَّدين إلا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك؛ لآثرْنا الخروجَ معك على الإقامة فيها.
قال: فدعا له الحسين ثم قال له خيرًا، وأقبل الحُرّ يسايره وهو يقول له: يا حسين! إني أذكّرك اللهَ في نفسك، فإنِّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلن، ولئن قوتلتَ لتهلكنّ فيما أرى، فقال له الحسين: أفبالموت تخوّفني! وهل يعدو بكم الخَطْب أن تقتلوني! ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوْس لابن عمه، ولقيَه وهو يريد نُصرةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أين تذهب؟ فإنك مقتول؟ فقال:
سأَمضِي وما بالموتِ عارٌ على الفتَى ... إذا ما نَوَى حقًّا وجاهدَ مسلمَا
قال: فلما سمع ذلك منه الحُرّ تنحّى عنه، وكان يسير بأصحابه في ناحية وحسين في ناحية أخرى، حتى انتهوا إلى عُذيب الهِجانات، وكان بها هَجائن النعمان تَرعَى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبُون فرسًّا لَنافع بن هلال يقال له: الكامل، ومعهم دليلُهم الطِّرِمّاح بن عديّ على فرسه، وهو يقول:
يا ناقتِي لا تُذعَرِي من زَجْرِي ... وشمّري قبلَ طلوعِ الفَجْرِ