قال أبو مخنف: فحدّثني عبد الله بن عاصم، قال: حدّثني الضحّاك المِشرقيّ قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خَلفنا؛ إذْ أقبل إلينا منهم رجل يَركُض على فرس كامل الأداة، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلّا حطبًا تلتهب النار فيه، فرجع راجعًا، فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلتَ النارَ في الدنيا قبل يوم القيامة! فقال الحسين: مَن هذا؟ كأنه شَمِر بن ذي الجَوْشن! فقالوا: نعم، أصلحك الله! هو هو، فقال: يا بن راعية المِعْزَى، أنت أَوْلى بها صلِيًّا؛ فقال له مسلم بن عَوْسَجَة: يا بن رسول الله، جُعِلتُ فِداك! ألا أرميه بسهم! فإنه قد أمكنني، وليس يَسقُط [منّي] سهم، فالفاسق من أعظم الجَبّارين، فقال له الحسين: لا ترمِه، فإني أكره أن أبدأهم، وكان مع الحسين فرس له يُدْعى لاحقًا حمل عليه ابنَه عليّ بن الحسين؛ قال: فلما دنا منه القوم عاد براحلتِه فركبها، ثم نادى بأعلى صوته دُعاءً يُسمع جُلَّ الناس: أيها الناس! اسمَعوا قولي، ولا تُعجلوني حتى أعِظَكم بما لحقٍّ لكم عليّ، وحتى أعتذرَ إليكم من مقدَمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدَّقتم قولي، وأعطيتموني النَّصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تُعطُوا النَّصَف من أنفسكم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}؛ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}. قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا صِحْن وبكيْن، وبكى بناته فارتفعت أصواتُهنّ، فأرسل إليهن أخاه العباس بن عليّ وعليًّا ابنه، وقال لهما: أسْكِتاهنَّ، فلَعمري ليكثرن بكاؤهنّ؛ قال: فلما ذهبا ليُسكتاهنّ قال: لا يَبْعد ابن عباس؛ قال: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهنّ، لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهنّ، فلما سكتن حَمِد الله وأثنى عليه، وذَكَر الله بما هو أهلُه، وصلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر لمن ذلك ما الله أعلم وما لا يُحصى ذكرُه، قال: فوالله ما سمعتُ متكلِّمًا قطّ قبْلَه ولا بعدَه أبلغَ في