عنهم تُخْلص لك طاعتُهم، وتحقن به دِماءنا ودماءَهم، فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمَّد بن مروان بأرض المَوْصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمَعا جميعًا عنده؛ كلاهما في جُنْدَيهما؛ فأمرهما أن يَعرِضا على أهل العراق نزعَ الحجّاج عنهم، وأن يُجرِيَ عليهم أعطياتِهم كما تُجرَى على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمَّد أيّ بلد من عراق شاءَ، يكون عليه واليًا ما دام حيًّا، وكان عبد الملك واليًا؛ فإن هم قبلوا ذلك عُزل عنهم الحجاج، وكان محمَّد بن مروان أمير العراق، وإن أبَوا أن يقبلوا فالحجّاج أميرُ جماعة أهلِ الشام ووليّ القتال، ومحمد بن مروانَ وعبد الله بن عبد الملك في طاعته، فلم يأتِ الحجاجَ أمرٌ قطَ كان أشدّ عليه ولا أغيَظ له ولا أوَجعَ لقَلْبه منه مخافةَ أن يقبلوا فيُعزَلَ عنهم، فكتَب إلى عبد الملك:
يا أميرَ المؤدمنين، والله لئن أعطيتَ أهلَ العراق نَزْعى لا يلبثون إلَّا قليلًا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلَّا جرأةً عليك، ألم تر وتَسمع بوُثوب أهلِ العراق مع الأشتر على ابن عفّان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزعَ سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إنَّ الحديدَ بالحديدِ يُفْلَح خارَ الله لك فيما ارتأيتِ، والسلام عليك.
فأبَى عبدُ الملك إلَّا عرضَ هذه الخِصال على أهل العراق إرادةَ العافية من الحَرْب، فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبدُ الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبدُ الله بن أمير المؤمنين، وهو يُعطيكم كذا وكذا، فذكَر هذه الخصال التي ذكرْنا، وقال محمَّد بنُ مروان: أنا رسولُ أمير المؤمنين إليكم، وهو يَعرِض عليكم كذا وكذا، فذكَرَ هذه الخصالَ، قالوا: نرجع العشيّة، فرجعوا فاجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يَبقَ قائدٌ ولا رأس قوم ولا فارسٌ إلَّا أتاه، فَحمِد الله ابنُ الأشعث وأثنَى عليه ثمّ قَالَ:
أما بعد، فقد أعطِيتم انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذِي الرّأي غدًا حَسْرة، وإنكم اليومَ على النّصف وإن كانوا اعتدّوا بالزاوية فأنتم تعتدّون عليهم بيَوْم تُسْتَرَ فاقبلوا ما عَرضوا عليكم وأنتم أعزّاءُ أقوياءُ، والقومُ لكم هائبون وأنتم لهم منتقصِون، فلا واللهِ لا زِلتم عليهم جُرّاء، ولا زلتمْ عندهم أعزّاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم.