فدخلنا فيها، فقد أمكَنَك الله منا، فإنْ عفوتَ فبِحلمك وفضلِك، وإنه عاقبْت عاقبتَ ظَلَمَةً مذنِبين، فقال الحجّاج: أما قولك: "إنها شمِلتِ البرّ والفاجرَ" فكذبتَ، ولكنها شملت الفُجّارَ، وعُوفيَ منها الأبرار، واما اعترافك بذَنبْك فعسى أن يَنفَعَك، فعُزِل، ورجا الناس له العافية حتى قُدِم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبِرْني عنك، ما رجوتَ من اتباع عبد الرحمن بن محمد؟ أرجوتَ أن يكون خليفةَ؟ قال: نعم، رجوتُ ذلك، وطمِعت أن يُنزلني منزلتَك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقَه، فقُتل.
قال: ونظر إلى موسى بن عمر بن عبيد الله بن مَعْمرَ وقد نُحِّي عنه فقال: اضِربُوا عُنقَه، وقتل بقيّتهم، وقد كان آمن عمرو بن أبي قرّة الكنديّ ثمّ الحجْريّ وهو شريف وله بيتٌ قديم، فقال: يا عمرو، كنت تُفضي إليّ وتحدّثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثمّ تبعتَ عبد الرّحمن بن محمد بن الأشعث؛ والله ما بك عن اتّباعهم رغبةٌ، ولا نَعمةَ عين لك ولا كرامة.
قال: وقد كان الحجاجُ حين هُزِم الناس بالجماجم نادى مناديه: مَن لِحق بقتَيْبة بن مسلم بالريّ فهو أمانُه، فلحق ناسٌ كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشَّعبيّ، فذكر الحجّاجُ الشعبيَّ يومًا فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بنُ أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالرّيّ، قال: فابحث إليه فلنُؤتَ به، فكَتَبَ الحجّاج إلى قتيبة: أمّا بعد، فابحث إليّ بالشعبيّ حين تَنظُر في كتابي هذا؛ والسّلام عليك؛ فسُرّح إليه. (٦/ ٣٧٤ - ٣٧٥).
قال أبو مِخنَف: فحدّثني السرّيّ بن إسماعيل عن الشعبيّ، قال: كنتُ لابن أبي مسلم صَدِيقًا، فلما قُدِم بي على الحجاج لقيتُ ابن أبي مسلم فقلتُ: أشِرْ عليّ؛ قال: ما أدري ما أشيرُ به عليك غير أن أعتَذِر ما استطعت من عذر! وأشار بمثلِ ذلك عليّ نُصَحائي وإخواني، فلما دخلتُ عليه رأيتُ واللهِ غيرَ ما رأوا لي، فسلّمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيّها الأمير، إنّ الناس قد أمروني أن أعتذرَ إليك بغير ما يَعلم الله أنه الحقّ، وايمُ الله لا أقول في هذا المقام إلّا حقًّا، قد والله سوِّدنا عليك، وحرّضَنا وجهدنا عليك كلّ الجهد، فما آلِونا، فما كنا بالأقوياء الفجَرة، ولا الأتقياء البَرَرَة، ولقد نصرك اللهُ علينا، وأظفرَك بنا، فإن سطوتَ فبذُنوبنا وما جَرّت إليه أيدينا، وإن عفوتَ عنا فبحلمك، وبعد الحجة.