للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لك علينا، فقال له الحجاج: أنت واللهِ أحبّ إليّ قولًا ممن يدخل علينا يَقطر سيفُه من دمائنا ثمّ يقول: ما فعلتُ ولا شهدتُ؛ قد أمِنْتَ عندنا يا شَعبيُّ، فانصرِفْ، قال: فانصرفتُ، فلما مَشَيتُ قليلًا قال: هلّم يا شعبيّ؛ قال: فوَجِل لذلك قلبي، ثمّ ذكرتُ قولَه: "قد أمِنْت يا شعبيّ" فاطمأنت نفسي، قال: كيف وجدتَ الناس يا شعبيّ بعدنا؟ قال - وكان لي مكرمًا: فقلتُ: أصلَح اللهُ الأمير! اكتحلتُ واللهِ بعدَك السَّهَر، واستوعَرْتُ الجَناب، واستحلَسْتُ الخوف، وفقدْتُ صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خَلَفًا. قال: انصرِف يا شَعبيّ، فانصرَفْتُ (١). (٦/ ٣٧٥).

قال أبو مِخنَف: قال خالد بن قَطَن الحارثيّ: أتِيَ الحجّاجُ بالأعشى، أعشَى همْدانَ فقال: إيه يا عَدُوّ الله! أنشِدْني قولَك: "بين الأشجّ وبين قيس"، أنفِذْ بيتَك، قال: بل أنشدُك ما قلتُ لك؛ قال: بل أنشدْني هذه؛ فأنشدَهَ:

أبى الله إلا أَن يُتَمِّمَ نُورَهُ ... ويُطْفئَ نُورَ الفَاسِقِينَ فيَخمُدا

ويُظهِرَ أَهْلَ الحَقّ في كلّ مَوْطِنٍ ... ويُعْدِلَ وقْع السَّيْفِ من كان أَصيَدا

ويُنْزِلَ ذُلّا بالعِرَاقِ وأَهلِهِ ... لِما نَقَضُوا العَهْد الوثيقَ الموكَّدَا

وما أحْدَثوا مِنْ بِدْعَةٍ وعظيمةٍ ... من القوْلِ لم تَصْعدْ إلى اللهِ مَصْعدا

وما نكَثوا مِنْ بَيْعةٍ بعْد بَيْعَةٍ ... إذا ضَمِنُوها اليَوْمَ خَاسُوا بها غَدَا

وجُبْنًا حَشاهُ رَبهُمْ في قلوبِهِمْ ... فما يقْربُونَ الناس إلا تَهدُّدا

فلا صِدْقَ في قَولٍ وِلا صَبْرَ عِنْدَهْم ... ولكِنَّ فخرًا فيهِمُ وتَزيُّدا

فكَيْفَ رأيت اللهَ فرَّقَ جَمْعَهُمْ ... ومزَّقهُمْ عَرْضَ البلادِ وشرَّدَا!

فقَتْلَاهم قَتلَى ضلَالٍ وفتْنةٍ ... وحيُّهُمُ أَمسى ذَلِيلًا مُطرَّدا

ولما زَحَفْنَا لابنِ يُوسُفَ غُدْوةً ... وأَبْرَقَ مِنَّا العَارِضَانِ وأَرْعَدا

قَطَعْنَا إليه الخندقَين وإِنَّما ... قطَعْنا وأَفضينا إلى الموت مُرْصِدا

فكافَحَنَا الحجّاجُ دُونَ صُفُوفنَا ... كِفاحًا ولَمْ يضْرِبْ لذلك موْعِدَا

بِصَفٍّ كأَنَّ البَرقَ في حَجَراتِهِ ... إذا ما تجَلَّى بيْضهُ وتَوقّدا

دلفْنَا إليه في صُفُوفٍ كأَنَّها ... جِبَالُ شَرَوْرَى لو تُعان فتَنْهُدا

فما لَبثَ الحجّاجُ أَنْ سَلَّ سَيْفهُ ... عليْنَا فولَّى جَمْعُنا وتَبَدَّدَا


(١) في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك.

<<  <  ج: ص:  >  >>