واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشُهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأةُ تخرج من منزِلها معها الطَّعام واللَّطَف والماء، قد التحفتْ عليه، فتخرُج كأنَّما تريد المسجدَ الأعظمَ للصّلاة، وكأنَّها تأتي أهلها وتزورُ ذاتَ قَرابة لها، فإن دَنت من القَصر فُتِح لها، فدخلت على زوجِها وحَميمِها بطعامِه وشرابِه ولَطَفه، وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابَه، فقال له المهلَّب - وكان مجرّبًا: اجعلْ عليهمُ دُرُوبًا حتَّى تَمنع من يأتيهم مِن أهليِهم وأبنائهم، وتَدَعهم في حِصْنهم حتى يموتوا فيه، وكان القومُ إذا اشتدّ عليهم العَطَش في قصرهم استقَوْا من ماء البئر، ثمّ أمر لهم المختارُ بعَسَل فصُبّ فيه ليُغيّر طعمَه فَيشربوا منه، فكان ذلك أيضًا ممَّا يُروِي أكثرهم، ثمّ إنّ مصعبًا أمر أصحابَه فاقتربوا من القَصْر، فجاء عبّاد بن الحصين الحبطيّ حتى نزل عند مسجد جُهَيْنَة وكان ربَّما تقدّم حتَّى ينتهي إلى مسجدِ بني مخزوم، وحتَّى يَرمي أصحابُه مَن أشرَف عليهم من أصحاب المختار من القَصْر، وكان لا يَلقَى امرأة قريبًا من القصر إلّا قال لها: مَن أنِت؟ ومن أين جئتِ؟ وما تريدين؟ فأخذَ في يوم ثلاثَ نسوة للشبَّاميِّين وشاكر أتَيْن أزواجهنّ في القَصْر، فبعث بهنّ إلى مصعب، وإنّ الطَّعام لمعهنّ.
فردّهنّ مصعب ولم يَعرِض لهنّ، وبعث زَحْر بن قيس، فنَزَل عند الحدّادين حيث تُكْرَى الدّوابّ، وبعث عُبيد الله بن الحُرّ فكان موقِفُه عند دارِ بلال، وبعث محمَّد بن عبدِ الرَّحمن بن سعيد بن قيس فكان موقِفه عند دار أبيه، وبعث حَوْشَب بن يزيد فوقَف عند زُقاقِ البَصْريين، عند فم سكة بني جذَيمة بن مالك من بني أسَد بنِ خُزَيمة، وجاء المهلَّب يسير حتَّى نزل جِهار سوج خُنيس، وجاء عبدُ الرحمن بنُ مخنَف من قبَل دار السِّقاية، وابتدر السوق أناسٌ من شَباب أهل الكُوفة وأهل البصرة، أغمار ليس لهم عِلمٌ بالحرب، فأخذوا يَصيحون - وَليس لهم أميرٌ: يا بن دَومة، يا بن دَوْمَة! فأشرَف عليهم المختارُ فقال: أما والله لو أن الذي يعيّرني بدَوْمة كان من القَريتين عظيمًا ما عَيَّرني بها، وبَصُرَ بهم وبتفرُّقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرُجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مئَتي رجل، فكرّ عليهم، فشدخ نحوًا من مئة، وهزمهم، فركب بعضُهم بعضًا، وأخذوا على دارِ فراتِ بن حيَّانَ العِجْليّ، ثمّ إنّ رجلًا من بني ضَبَّة من أهل البَصْرة يقال له يحيى بن ضَمضَم، كانت رِجلاه