بات ابنُ الزبير يصلِّي عامَّة اللَّيل، ثمّ احتبَى بحمائل سيفه فأغفى، ثمّ انتبه بالفجر فقال: أذِّن يا سعد، فأذَّن عند المقام، وتوضَّأ ابنُ الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدَّم، وأقام المؤذّن فصلَّى بأصحابه، فقرأ:{ن وَالْقَلَمِ} حرْفًا حرفًا، ثمّ سلّم، فقام فحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال:
اكشفوا وجوهَكم حتَّى أنظر، وعليهم المغَافر والعمائم، فكشفوا وجوهَهم فقال: يا آل الزبير، لو طِبْتم لي نَفْسًا عن أنفسكم كنَّا أهلَ بيت من العرب اصطُلِمْنا في الله لم تصبْنا زبَّاءُ بتَّة، أمَّا بعد يا آل الزبير، فلا يرُعْكم وقعُ السيوف، فإني لم أحضر موطنًا قطّ إلا ارتثثْتُ فيه من القتل، وما أجدُ من أدواء جراحها أشد ممَّا أجد من ألمِ وقعها، صونوا سيوفَكم كما تصونون وجوهَكم، لا أعلم امرأً كسر سيفَه، واستَبقى نفسَه، فإنّ الرجلَ إذا ذهب سلاحُه فهو كالمرأة أعزل، غُضوا أبصاركم عن البارقة، وليَشْغَلْ كلّ امرئ قِرْنَه، ولا يُلهينكم السؤالُ عنّي، ولا تقولُنّ: أين عبدُ الله بنُ الزبير؟ ألا من كان سائلًا عنّي فإني في الرَّعيل الأولّ.
فلَسْتُ بمُبتاعِ الحَياة بسُبَّةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خَشْيَةِ الموتِ سُلَّمَا
احملوا على بركة الله.
ثمّ حمل عليهم حتَّى بلغ بهم الحَجُون، فرُمِي بآجُرّة فأصابته في وجههِ فأرعِش لها، ودمي وجهُه، فلمَّا وجد سخونةَ الدَّم يسيل على وجهه ولحيته قال:
فلسْنَا على الأعقاب تَدْمَى كُلُومُنا ... ولكنْ على أقدامِنَا تَقْطُرُ الدّما
وتغاوَوْا عليه.
قالا: وصاحب مولاة لنا مجنونة: واأميرَ المؤمنيناه! قالا: وقد رأتْه حيث هوى، فأشارتْ لهم إليه، فقتل وإنّ عليه ثيابَ خَزّ، وجاء الخبر إلى الحجَّاج، فسجد وسار حتَّى وقف عليه وطارق بنُ عمرو، فقال طارق: ما وَلَدت النساءُ أذكرَ من هذا؛ فقال الحجَّاج: تمدح من يُخالف طاعةَ أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذَر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عُذر، إنَّا مُحاصِروه، وهو في غير خندَق ولا حصن ولا مَنَعة منذ سبعة أشهر ينتصف منَّا، بل يفضل علينا في كلّ ما التقينا نحن وهو؛ فبلغ كلامُهما عبدُ الملك، فصوّب طارقًا. (٦/ ١٩١ - ١٩٢).